Saturday, September 29, 2012

صفعة على وجه الولايات المتحدة



رؤوفين باركو يكتب: صفعة على وجه الولايات المتحدة
مقال منشور للصحفي الإسرائيلي اليميني المتشدد في صحيفة "يسرائيل هايوم" يوم 24/ 09/ 2012
رابط المقال:

ترجمه من العبرية إلى العربية: محمد عبد الدايم هندام

خلال زيارة البابا للبنان مؤخرا؛ قدّم الفاتيكان حالة هذه الأرض التي تنزف كمثال عالمي للتعايش المشترك بين الأديان، وجاء توقيت الزيارة في وقت تتصاعد فيه تحركات المسلمين ضد المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط، بما فيها حرق الكنائس، والتي أدت إلى موجة هجرة للمسيحيين من الدول العربية، متخليين عن ثرواتهم وممتلكاتهم.
في الفترة الأخيرة تبنت الحكومة الإسرائيلية قرارا بضمان حقوق اللاجئين اليهود القادمين من البلاد العربية كشرط  لحل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، فمصير المسيحيين يبرهن الآن تحديدا على جدية العرب، ويشير إلى هدفهم من الحكمة العربية القديمة "نبدأ مبكرا يوم السبت وننتهي يوم الأحد". نعم، ففي البداية نفّذ العرب مذبحة بحق اليهود العرب الذين هربوا وأصبحوا لاجئين في إسرائيل بعدما تم نهبهم، والآن جاء الدور على المسيحيين لتتم إبادتهم خلال الربيع الإسلامي.
يعكس انتقال الدول العربية من النظام الديكتاتوري إلى حكم الشريعة شكل علاقة الوصاية على "أهل الذمة" المسيحيين المتمثلة في "الاستعداد" الإسلامي لحمايتهم والحفاظ على سلامتهم، ويثير هذا الأمر غضبا في صفوف قادة المسيحيين خلال حربهم الشعواء من أجل الحصول على الأمن والحق في البقاء، والذي يستند، في منظورهم ، إلى تاريخ الدول العربية. غير أن متطرفي الإسلام يواصلون الزعم بأن العالم المسيحي يدبر مؤامرات مع اليهود، وفي النهاية سوف يعتنق الإسلام.
الأسبوع الفائت في سوريا التي يُذبح مواطنوها بالجملة على يد السلطة ويحاولون مساعدتهم بالدفاع عنهم بالمال والسلاح من العرب؛ اتهم مُفتي سُني فيها أمريكا والغرب بأنهم يدبرون مؤامرات "صهيونية أمريكية" ضد الإسلام ونبيه، وكما هو معروف أن الشيوخ المسلمين لا يسمحون للحقائق أن تهدم قصتهم المُستقاة من مصادر إلهية موثوق فيها، ولم يكف هؤلاء السدنة عن التشهير باليهود باعتبار أنهم يقفون وراء فيلم يسيء إلى مُحمد، رغم نفي ممثلي الفيلم ومنتجه.

ومن قام للدفاع عن أمريكا؟ إنه تحديدا شيخ الجهاد في جماعة الإخوان المسلمين ، الشيخ يوسف القرضاوي، الرجل الدموي الذي يدعو للاعتداءات "خرج من بوتقته" وقرر أنه "لا يجب اتهام أمريكا كلها بالجريمة التي ارتكبها مواطن مجهول ضد الإسلام، فقد تبين الآن أن قيادة الإخوان المسلمين تدرك أن الدول الإسلامية السنية في حاجة إلى الدولارات والقمح الأمريكي من أجل فقراء "الأمة"، وأن أمريكا حاليا هي "الثدي" المُتاح لإرضاعهم. هذا الإدراك هو ما يستند إليه التصريح "الشجاع" للقرضاوي، الذي يدل في الواقع على أن قادة المسلمين باستطاعتهم استنكار الإرهاب الإسلامي العالمي ضد الغرب قبل وبعد 11 سبتمبر 2001، غير أنهم اختاروا تحديدا تشجيع الإرهاب والوحشية.
في حين يقوم قادة الدول العربية من الإخوان المسلمين بالمساهمة المادية، اعتمادا على الغذاء والمعونة الأمريكية من أجل إعادة الإعمار، يحرض شيوخهم بنفاق شرير على مهاجمة الولايات المتحدة. وفقا للحكمة العربية، فيشربون من ينبوع "الربيع" الأمريكي ثم يبصقون فيه، بالتزامن مع "الربيع" العربي. هذا الخليط الكريه أدى إلى وحشية همجية إسلامية ضد سفارات الولايات المتحدة في العالم، أدى إلى مقتل السفير الأمريكي في ليبيا، أدى إلى الإضرار بمصالح أمريكية في الدول العربية والهجوم على قاعدة للناتو في أفغانستان قُتِل جراؤه جنود وتحطمت طائرات تابعة للولايات المتحدة.
يؤمن المتعصبون في منطقتنا وفي إيران ذات القدرات النووية أن الإسلام يهدف للسيطرة على البشرية، ولكن في الوقت الذي يشتد فيه الهجوم بالرسوم المسيئة على الله ومحمد ويحتاجان للدفاع عنهما ووجوب الموت من أجلهما؛  يعبر الغوغاء المسلمين بنجاح عن الثقافة المحببة لـ"الحوار واحترام الاتفاقات والديمقراطية والتقدم". يا للجمال! حينما نعتنق الإسلام سنصبح مثلهم. حقا، وأمريكا الصليبية الناجحة، التي تمثل الإباحية الجاهلية، والجنس والخمر و"الشباب الدائم" إنما هي عائق أمام الإسلام المُعزز. فحياة مثل هذه مُعدة فقط للشهداء في جنة عدن، وأمثال هؤلاء الشهداء يخطون بالملايين نحو واشنطن.
لا يدرك أوباما أن الكراهية الرجعية للمؤسسات الإسلامية والغوغاء تجاه أمريكا إنما هي وحشية تعصب الفاشل ضد الناجح، وهي مرض عضال، ويعبر الاستغلال الساخر للفيلم القديم تحديدا في نفس تاريخ الهجوم على برجي التجارة عن غفلة إدارة أوباما، التي تساهم بلا شروط في استقواء المُكلفين في دينهم بالقضاء عليها، في حين أنها في المقابل غير قادرة على أن تنال علاقة عادلة ومخلصة على الأقل.

Wednesday, September 12, 2012

الإساءة للرسول...والغضب الساطع آت



ليست هذه المرة الأولى التي يُنتَج فيها عمل يسيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى دول الغرب، ولن تكون الأخيرة، طالما يوجد موتورون متعصبون، وكالعادة حينما يحدث أمر كهذا، ينتفض كثير من المسلمين غضبا، فتخرج مظاهرات ومسيرات، وترتفع حدة الهجوم على الدول الغربية، وتتعالى نداءات مقاطعة المنتجات المستوردة من الدول التي ظهر فيها العمل المُسيء، وغير ذلك من التحركات التي تبدو في ظاهرها تعبيرا عن حب رسول الله والدفاع عن العقيدة، غير أنها أحيان كثيرة تحمل إساءة لأصحابها أكثر ما تدافع عن عقيدتهم منهجهم، مثلما هو الحال إزاء مسألة الفيلم المُسيء للرسول الذي اشترك فيه بعض من أقباط المهجر.
لا أدري لماذا يُصر البعض على عدم الاقتناع بأن الإعلام والفن والرأي في الغرب غير مُؤتمرين بأمر الحكومات، فلا حكر هناك على فكر أو رأي أو مادة ثقافية أو دعائية إعلامية مهما كانت، ومن هذا المنطلق يستطيع أي فرد أو كيان أن يُنتج عملا يتناول فيه أي شيء، ويسيء أو ُحسن إلى أي شيء، إلى حد أن الذات الإلهية نفسها تعرضت للإساءة، هذا كله بعيد عن الحكومات، فلا دخل للإدارة الأمريكية بالفيلم الذي يسيء للرسول، وبالتالي لا دخل للسفارة الأمريكية في مصر، السفارة التي تظاهر أمامها المئات واعتلى أسوارها بعض منهم احتجاجا على الفيلم.
ليس النبي محمد أول الرسل الذين تعرضوا لإساءة في الإعلام أو الفن الغربي، فالمسيح عليه السلام أصبح مادة إعلامية وفنية يفعلون بها ما يحلو لهم، حتى أنهم أظهروه في إعلان يشرب مياه غازية، كل هذه الممارسات لا تستطيع الحكومات الغربية أن تحد منها أو تمنعها، لأنها ببساطة لا تستطيع الحجر على حرية إنسان في أن يفعل ما يشاء.
ليس مطلوبا من الحكومة والساسة الرد على هذه الأفعال، لأنها من جانب أعمال فردية لا تعبر عن توجهات الدول، ولأنها من جانب آخر لا تستحق الرد، فالفيلم أو الكاريكاتير أو الصور أو غيرها من هذه المواد المُسيئة للإسلام والرسول ليست إلا أعمالا همجية من أشخاص متعصبين موتورين من الإسلام لا يستحقون الرد قولا أو فعلا.
يشعر المرء بالحزن والحسرة لأسلوب الدفاع عن الدين والرسل، فالأمر لا يعدو كونه جعجعة بلا طحن، وتصرفات حنجورية جوفاء، تتمثل في الرد على الإساءة بإساءة، والتظاهرات المحلية، والسب والقذف، ومن شدة الأسف أننا أمة إذا غضبت انتفضت فقام أبناؤها بتغيير صورة "البروفايل"، ليتمخض الجبل فيلد في النهاية فأرا. فلا نحن أوقفنا الدعاية المُسيئة للإسلام، ولا عملنا على تحسين صورة الدين الحنيف الذي أسأنا إليه كثيرا بأقوالنا وأفعالنا.
وجد البعض في ظهور الفيلم المُسيء للرسول فرصة ليهاجم المسيحيين في مصر، وينتقد ديانتهم، ولا أرى في ذلك إلا همجية ورعونة وضيق أفق، بالضبط مثل المظاهرات التي تخرج منددة وتحمل شعارات تدافع عن الرسول، والتي تشبه حفل الفنان محمد منير للدعاية لملف مصر في تنظيم كأس العالم 2010، والذي أقيم عند سفح الهرم، وكأننا نقي حفلا في مصر للفوز بصوت أبي الهول مثلا.
الآن بعد ما حدث في القاهرة أمام السفارة الأمريكية، وفي بني غازي أمام القنصلية الأمريكية أصبح كل مواطن أمريكي لم يشاهد ولا يهمه أن يشاهد فيلما تافها أنتجه مغمورون يعتبر أن كل من تظاهر أمام سفارة فقتل أمريكيا أو اقتحم أو حرق علم الولايات المتحدة ووضع بدلا منه علم الجهاد ورفع صورة ابن لادن في ذكرى 11 سبتمبر ما هم إلا إرهابيين بالفطرة، ويا لها من طريقة بشعة للدفاع عن الإسلام والرسول تنقلب لتصبح خنجرا في صدورنا.
الحنجورية والتشدق بشعارات أن الغرب عدو الله والإسلام لا تسمن ولا تغني من جوع، بقدر ما تنقلب ضدنا وتظهرنا أمة الجعجعة والتخلف والشعارات الجوفاء، فقبل أن نتهم الغرب بالإساءة للإسلام يجب أن نتوقف نحن عن إساءة صورة الإسلام وتشويه صورة المسلم المتدين الحق.
يجب أن نعلم إن تجاهل مثل هذه الإساءات يمحوها ويُسفّهها، فنحن فقط من نعطي أهمية للصور والأعمال الفنية والدعائية المسيئة للإسلام والرسول الكريم، ولو تجاهلناها ما لاقت مثل هذا الاهتمام ونسب المشاهدة، يكفي أن تعرف أيها القارئ أن رابط الفيلم المُسيء للرسول على موقع "يوتيوب" والذي ينال أكبر نسبة مشاهدات موجود على قناة تسمى المرصد الإسلامي. فلماذا نعطي الظاهرة ما لا تسحق من الاهتمام والنقد والمشاهدة؟!
بالنظر إلى حالنا يتضح أننا أول المُسيئين للإسلام، نحن أمة لا تعمل، لا تنتج، لا تفكر، لا يتحد أبناؤها، نختلف فيما بيننا، فهذا علماني ، وهذا ليبرالي ، وهذا إسلامي، ولا أعرف حقيقة ماذا تعني كلمة إسلامي، ما أعرفه فقط وأعترف به هو كلمة مسلم، نحن أمة شعارات فقط وصوت عال بلا داع، بلا نتيجة.
بدلا من الغضب الأحمق والتشدق بالشعارات الجوفاء يمكننا أن نكافح الإساءة للإسلام بالعمل، حينما نعمل لننتج ونفكر فنصبح دولة قوية لن يستطيع أحد أن يسيء إلينا، حينما نعمل فنناطح الدول الغربية قوة اقتصادية ودفاعية وعلمية وثقافية وثقل سياسي فلن يجرؤ أحد على الإساءة إلينا، حينما نسعى لتصدير صورة المسلم المتدين حقا سوف نزيل الشكوك ونواجه الإساءة لديننا ورسولنا، كيف ننتظر ألا يسيء أحد إلينا ونحن نعيش في فوضى وجهل وتعصب ديني وتخلف حضاري وثقافي وعلمي، كيف ينتظر ألا يسيء أحد إلينا ونحن اختزلنا الإسلام في بناء مساجد، وإنشاء قنوات ترفع شعارات الدين في حين أنها تنضح بكل ما يسيء للإسلام، ليخرج علينا مُدعي دين يسب هذا ويُكفِر ذاك، وقد ترك مُؤهله الأساسي الذي تعلمه سنوات ليتحول بقدرة قادر إلى "داعية" يُفتي في أي وقت، ويخطب بما يشاء، فيخسر المجتمع الإسلامي مهمته الأساسية كطبيب أو مهندس أو مُعلم أو مُترجم، وفي الوقت نفسه يُبتلى الإسلام برجل دين متعصب يعطي أسوأ صورة للدين، بلا من أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل المخالف له بالتي هي أحسن، فالإسلام ما انتشر بحد السيف، ولا بالصراخ على المنابر ولا في القنوات الدينية التي تزايد وتندد وتُكفِّر وتحصر الدين في نطاق الشكل، انتشر الإسلام لسماحة التجار الذين جابوا بلاد العالم واختلطوا بأهلها بأخلاقيات الدين السمحة الهادئة، انتشر الإسلام حينما أعطينا للعلم أهميته، فظهر الخوارزمي وابن سينا وابن الهيثم ، انتشر الإسلام في غياب الوظيفة المستحدثة "عالم دين"، فالصحابة والتابعين وأصحاب المذاهب كانوا يعملون وليسوا علماء دين يتكسبون من العمل في القنوات الدينية.
لم نسع للعمل على نشر صورة الإسلام السمح، والمسلم المتعلم المثقف الهادئ المتسامح، وإنما رسخنا صورة التدين الشكلي الزائف، حتى لم نكلف أنفسنا أن نقتدي بالدول الإسلامية المحترمة، كماليزيا مثلا، الدولة الإسلامية التي فيها عشرات الأعراق والطوائف الدينية، ولا تشهد فتنة طائفية، في حين أن مادة الديانة في دستورها تقول :"حرية الدين مكفولة للجميع" فقط، ماليزيا الدولة الإسلامية الصغيرة التي شقت طريقها وسط النمور الأسيوية لا تدافع عن الإسلام بالصور والشعارات والقنوات الدينية وغيرها، وإنما تدافع عن الإسلام بالعمل والتقدم العلمي والتكنولوجي الذي تستطيع به أن تنافس الدول العظمى فتجبرها على احترامها ومن ثم احترام الإسلام الحق الذي تستند إليه.
تراخينا كثيرا وسكتنا وعشنا عقودا في الجهل والتخلف والآن نواجه الإساءة للإسلام بشعارات الغضب الساطع آتٍ بجياد الرهبة آتٍ، فنتوعد المُسيء بالعقاب في الدنيا والآخرة، نرفع أصواتنا ونغير صور صفحاتنا الاجتماعية، ونتظاهر، ونحرق أعلام الغرب وإسرائيل، وقد نمنا سنين متجاهلين سرقة أوطاننا، وغرقنا في وحل الظلمات والجهل والتخلف، سمحنا بظهور حكام طواغيت سلبونا حريتنا وأمننا، واعتلوا ظهورنا عقودا، ورجال دين طواغيت زرعوا فينا التعصب، والآن نتهم غيرنا بالإساءة إلى الإسلام والرسول. مالكم كيف تحكمون؟!
قال الله تعالى:"وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ". وقال:" إلاَّ تَنْصُرُوه فَقَد نَصَرَه الله". الإسلام ليس في حاجة إلى الجعجعة بلا عمل،والشعارات الجوفاء والتدين الزائف، والرسول ليس في حاجة إلى نصرة عاطفية شكلية، فقد نصره الله تعالى، الإسلام والرسول في حاجة إلى مسلم قوي بعمله وعلمه وحضارته مستندا إلى دينه القويم الحنيف المُتسامح. استقيموا يرحمنا ويرحمكم الله.

Sunday, September 09, 2012

متى يعطي المصريون ظهورهم للترعة؟!

منشور في موقع نريد:
http://www.noreed.com/InformationCenterDetails.aspx?InformationCenterDetails=640&&TopMenu1=4&&InformationCenterMain=4


النيل يعاني
        في الطريق الزراعي من المنصورة إلى المنزلة بالدقهلية والعكس تشاهد  منظرا يوميا على ضفتي الرياح الذي يغذي البلاد الواقعة على جانبيه بمياه الزراعة والشرب، مئات السيدات والفتيات يُشمرن جلابيبهن حتى تقترب إلى ما فوق الركبة، وينحنين في جهد دءوب لغسل أوانيهن في الماء، ثم يأتي الدور على المفارش والحصير، وقبلها في الصباح الباكر ينزل الرجال بحميرهم وخيلهم ومواشيهم ليستحموا معا، الإنسان والحيوانات في المياه التي تهددنا دول حوض النيل بمنعها عنا، في المياه التي تقل يوما بعد يوم، في المياه التي ما تزال كثير من القرى والنجوع المصرية محرومة منها.

        وطبعا في أيام الصيف لا نعدم المشهد اليومي لأطفال ومراهقين يتنافسون في الاستحمام في هذه المياه بملابسهم الداخلية، أو في كثير من الأحيان يخلعون كافة ملابسهم ليتباروا في السباحة والغوص عُراة كما ولدتهم أمهاتهم، ولا يكتمل المشهد إلا بوجود مجموعات من الفلاحين يُغرقون شكاير من الخضروات في نفس المياه لغسلها، بجانب الحيوانات التي تستحم وتتبول، وبجانب رغوة صابون غسيل الأواني، وأكوام القمامة التي ترتع فيها القوارض على جانبي الريّاح، هذا المشهد المأساوي أراه يوميا منذ نعومة أظافري مع أول مرة سافرت فيها من قريتي إلى مدينة المنصورة التي أقيم فيها الآن والعكس، وحتى يومنا هذا، في أواخر عام 2012، ما يزال هذا المشهد يكافح للبقاء.

        كلما أرى ما أرى ذهابا وإيابا أكاد أستشيط غضبا تارة، أو أبكي حزنا تارة أخرى، على أناس يلقون بأنفسهم إلى التهلكة، فهذه البلاد التي يجري فيها الريّاح لا تعاني من انقطاع المياه كثيرا مثل قرى أخرى في مصر، بل تعيش في مستوى أعلى مقارنة بغيرها في محافظات أخرى، لكن كثيرا من أهلها جُبِلوا على هذه العادات الذميمة التي يعرف القاصي والداني آثارها السلبية، تلوث ونقص المياه، وبالتالي تلوث المزروعات، واستنفاذ محاولات أكثر لتحلية وتكرير مياه الشرب، ناهيك عن انتشار الأمراض والأـوبئة بين هؤلاء الذين يرتكبون هذه الخطيئة يوميا، أشاهد هذا المنظر المقزز وأتذكر إعلانات التوعية التي قدمها لنا في الماضي الفنان الراحل محمد رضا، أتذكر قولته الشهيرة :"طول ما ندي ظهرنا للترعة، عمر البلهارسيا في جتتنا ما ترعى". وكم رعت وترعرعت وكبرت واستفحلت البلهارسيا في أجساد هؤلاء الذين يغامرون بحيواتهم يوميا، فتستوطن الأمراض المزمنة في أجسامهم، لا لشيء إلا لأنهم اعتادوا على هذا منذ أن خرجوا إلى العالم، ولم يجدوا ناصحا أمينا، ولا توعية سليمة، ولا قانونا صارما يُجرم ويمنع هذه الممارسات المُدمرة لمياه النهر الأعظم في العالم، ولصحة الشعب التي عانت الأمريْن.

        بالطبع هذا ليس قاصرا على هذه المنطقة فحسب، بل ما تزال أغلب القرى والنجوع المُطلة على الترع والريّاحات في مصر تمارس نفس هذه العادات الكارثية، إما لعدم وجود مياه في المنازل، أو لأنها عادات موروثة تحتاج لجهود خارقة لاقتلاعها ونبذها.

        لا أعرف هل ألوم المواطنين أم الحكومات المتعاقبة؟ هل ألقي باللائمة على الجهل والأمية والفقر؟ هل المشكلة في غياب الرقابة والقوانين الحامية لمياه النيل والحافظة  لحياة المصريين؟ لا أدري حقيقة، لكن هذا المشهد اليومي إنما يستحيل معه تخيل أننا في مصر بلد الحضارة، وفي عام 2012، وفي وطن أنجز ما أنجز للإنسانية.
الكل مسئول: الحكومات المتعاقبة، النواب الشعبيون، المنظمات المدنية، المواطن البسيط، وإن لم نتخلص من هذه العادات، وتنتهي هذي الممارسات بحق النيل، فلا داع للحديث عن مصر الجديدة، ولا مصر بعد الثورة، ولا مدينة العلوم والتكنولوجيا،...إلخ، فقط لنتحسر جميعا على هذا النيل العظيم الذي يوما سينقلب علينا غضبا. وهذا الشعب الذي يفتح أحضانه لجميع الأمراض المستوطنة.