Saturday, October 27, 2012

مصر بين التجريف والتجهيل



بعيدا عن الفساد والظلم والتسلط والديكتاتورية وغيرها مما تفشى في عهد مصر مبارك؛ إلا أنه لم ينجح في شيء قدر نجاحه في تجريف الشخصية المصرية، وتجهيل الشعب، فمن أعظم مفاسده على الإطلاق تعمده إبعاد وإقصاء ودفن القيادات الشابة والموهوبين والمخلصين والوطنيين من المصريين عن المواقع التنفيذية والقيادية والعلمية والثقافية والجماهيرية.
في المقابل اتبع مبارك ونظامه منهجا جاسوسيا مُدمرا لأوصال الدولة بتنصيب الفاسدين والمتلونين وأصحاب النفوذ والسلطة في المناصب والمراكز القيادية في كل أرجاء الدولة، فبإضافة إلى كونهم وصوليين وانتهازيين وطامعين في لحم الوطن ورزق المواطن؛ كذلك ظهرت واضحة للعيان أمارات  كسلهم وفشلهم في العمل والإدارة والتفكير، فوصلنا إلى حال يندى لها الجبين من الفساد والتخلف والبيروقراطية.
على جانب آخر نجح مبارك بجدارة في مسعاه نحو تجهيل الشعب المصري بكل طوائفه، والتجهيل لم يكن قاصرا على فئات بعينها تشيع بينها الأمية والفقر، بل شاع الجهل في جميع الأوساط الشعبية وعلى جميع الأصعدة، بداية من الفلاح الأمي وصولا إلى أساتذة الجامعات.
واستند النظام البائد في إشاعة الجهل إلى مجموعة من الأدوات التي استغلها بمهارة شياطين الإنس، بداية من تجويع الشعب، ليبحث فقط عن قوته بدلا من غذائه الروحي وثقافته، مرورا بتقييد كل محاولة للإبداع والثقافة، بل أية محاولة متواضعة للتفكير والبحث والتنوير، معتمدا في ذلك على منظومة متشابكة من الأسلحة التي أصابت العقل المصري في مقتل، حيث تعمد النظام المباركي - ومن قبله الساداتي - إهمال التعليم، والتفرقة بين طوائف الشعب تبعا لمستوى سلطة كل طائفة، وربط أمن المصريين بخنوعهم للحاكم، وكبت كل مساعيهم نحو تطوير أنفسهم ماديا واجتماعيا وفكريا وثقافيا.
هذه الشبكة العنكبوتية نتاج تجريف العقل المصري وتجهيله لم تستطع أن تخترق جماعات الشباب المصريين الذين انفتحوا - رغما عن السادات ومبارك - على العالم الخارجي، فلم يعد بإمكان أي حاكم ديكتاتور أن يغلق على أبناء شعبه كل المنافذ والأبواب، ولم يعد باستطاعته وضعهم جميعا في قمقم واحد، فيخرجهم متى يريد ويحبسهم متى يشاء.
وحينما تطلع هؤلاء الشباب على العالم وما يجري فيه نظروا إلى أنفسهم وأهليهم مليا، فتبادر على الفور سؤالهم عن مكانة مصر بين بلاد العالم، أين هي من العالم الحر، أين مصر التي ما خضعت لمُحتل، أين هي من العالم المتحضر، أين هي من الفكر والثقافة والعلوم، أين خيراتها ونيلها ومنابع أرزاقها، أين تراثها وحضارتها العريقة الآن، أين عقول أبنائها وسواعدهم، أين أزهرها الذي أنار العالم بالإسلام الوسطي الذي ينفع الناس، أين هي من التسامح والحميمية؟! و الإجابة عن كل هذه التساؤلات هي ثورة 25 يناير.
تفاءلنا كثيرا وحلمنا بمصر الجديدة، غير أننا لم نتعلم من أخطاء الماضي، فلم نلفظ الماضي الكئيب برمته، أخطأنا حين تنازعنا ففشلنا فذهبت ريحنا، وأخطأنا أكثر حينما بدأنا نضع أساس الدولة الجديدة فوق ركام الدولة العميقة، ربما ظن البعض أن أشباح الماضي لن تظهر مجددا فتخيفنا وتدمر حلمنا، وهذا الظن المبني على حسن نية ساذج هو ما أدى بنا إلى هذه الحال.
من قام بالثورة مصريون استطاعوا الهروب من مقصلة تجريف العقول وتجهيل الشخصيات، غير أنهم سلموا كل ثورتهم بمنجزاتها لأولئك الذين كانوا عماد النظام المباركي البائد، بحكومته ومعارضته، هذا النظام الذي ولّد لنا مسخا يطاردنا حتى الآن.
بعد ما يقرب من عامين على الثورة ما يزال المفكر الذي ينورنا هو نتاج نظام مبارك، ما يزال العالم يُنظّر لنا بعقلية مبارك المُجرفة، انظر إلى من يتصدرون المشهد الآن، المشهد بكامله، انظر إلى الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، انظر إلى عقليات الساسة والخبراء والمفكرين الذين يتولون أمرنا ويقودونا ويحتلون حياتنا، في الشارع ، في وسائل الإعلام، في المناصب، في الحكومة، في المعارضة، للأسف ستجدهم نفس الشخصيات الوصولية المتنطعة التي لعب نظام مبارك في عقولها، تكتشف مدى خوائهم الفكري وانتهازيتهم السياسية وجهلهم الديني وتلونهم الفاضح.
إلى الآن بعد كل ما بذله مصريون طاهرون من أجل مصر منذ اندلاع الثورة يقودنا ساسة منافقون، حكومات ديكتاتورية مستبدة، معارضة حنجورية بلا فعل، مُدعين دين جهلة يتذرعون بحكمة زائفة وتدين شكلي، مجموعات من المتنطعين على شاشات التلفاز وصفحات الجرائد يدعون الحكمة والعلم والدراية يخدعون أنفسهم بالبزات الأنيقة أو الرداء الأبيض وزبيبة الصلاة، ويختفون وراء شعارات زائفة.
أيها السادة؛ نظام مبارك لم يسقط، رجال مبارك لم يرحلون، فقط وضعنا الديكتاتور في مستشفى السجن، وتركنا آله وزمرته وجحافل زبانيته يمرحون في الأرض بغير الحق، فإذا كنتم تبغون مصر الجديدة حقا فعليكم أولا أن تلفظوا هؤلاء جميعا، فقد وضح جليا الآن أنه لا فارق بين نظام مبارك والنظام الحالي إلا في الشكل الخارجي، بيد أن الأسلوب هو نفسه، والعقلية هي ذاتها،  فهؤلاء جميعا نتاج منهجية التجريف والتجهيل.

Thursday, October 04, 2012

إسرائيل كدولة عربية


سلمان مصالحة يكتب: إسرائيل كدولة عربية
مقال منشور في صحيفة هآرتس الإسرائيلية بتاريخ 23/ 09/ 2012
                   ترجمه من العبرية إلى العربية: محمد عبد الدايم هندام
                                    
يتناول كاتب المقال قضية التفرقة بين اليهود والعرب في الداخل الإسرائيلي واستخدام إسرائيل للسلطة للتدخل في المنظومة الإعلامية بشكل فج يشبهه بما يحدث في الدول العربية ذات الأنظمة الشمولية، كما يتطرق لقضية أسرلة (من إسرائيل) فلسطيني إسرائيل.

رابط المقال:

منذ سنوات طوال؛ حينما كنتُ طالبا في المدرسة الثانوية، اكتشفتُ أن إسرائيل هي في المُجمل دولة عربية أخرى في المنطقة، على الأقل فيما يتعلق بتعاملها مع المواطنين العرب فيها، ومنذ ذلك الوقت وأنا متمسك برأيي، واحتقرتُ الأنظمة في البلاد العربية وتغيرت بالتالي علاقتي بإسرائيل العربية.
في العالم العربي؛ خلافا لما يجري في إسرائيل اليهودية الديمقراطية، لا يتحدثون عن أزمة الصحافة في العصر الرقمي، في هذا السياق؛ لا يلعب اقتصاد السوق أي دور في هذا الشأن على الإطلاق، وأغلب الصحف العربية ، سواء التي صدرت قبل "الربيع" (أي ما يسمى الربيع العربي) أو بعده، تتلقى دعما ماليا حكوميا، وتشكل بوقا للسلطة، وهنا على سبيل المثال حينما جاء في الجوار زعيم جديد في مصر حدث أن تم تغيير محرري الصحف، المسألة بسيطة للغاية.
أنا مضطر لاستعارة مُسمى"إسرائيل العربية"، في أعقاب الدعوة التي نشرها قسم البرامج العربية في الإذاعة الإسرائيلية، وفيها يطلب أن يُقدَم له اقتراحات بأفلام وثائقية بمناسبة يوم الاستقلال (ذكرى نكبة فلسطين) الخامس والستين لدولة إسرائيل، وقد جاء في الإعلان أن الأفلام يجب أن تكون "متوافقة مع أهداف البث الجماهيري بالعربية". لم نتعلم أن البث الإذاعي الجماهيري "بالعربية" له أهداف خاصة مختلفة، ووردت المواضيع المطلوبة بالتفصيل على موقع الإذاعة، وهي: "القدس - المدينة التي تجمعنا معا" و"إسرائيل كدولة هجرة". وإذا كان أحد لديه أي شك؛ فإليكم عنوان آخر يضمن وجود أفلام جذابة: "إسرائيل تريد سلاما" و"مشاهير الإسرائيليين واليهود"، والذي يحكي للمشاهد العربي عن إسهاماتهم للبشرية. بل إن الإذاعة تبحث عن أفلام تعرض "مواقع تاريخية في الأرض المقدسة والارتباط الإسرائيلي بها". هذا كي لا يأتي أحد ما، حاشا لله، ويحكي عن مواقع مهمة للعرب، حتى إذا كانوا مواطنين "متساوين في الحقوق"، مثل مقال الدعاية الصهيونية، والفيلم المُنتج أيضا من المفترض أن يتناول الحديث عن المسجد الأقصى، أو عن مدينة الرملة في عصر الدولة الأموية - والآن إلى أين نحن متجهون؟
"إسرائيل العربية"، هذا ما اكتشفته في مرحلة المدرسة الثانوية، لا تختلف كثيرا عن إسرائيل اليوم، فقد أتخمونا لسنوات في المدرسة بأشعار استقلال إسرائيل، باعتبارنا تلاميذ عرب اضطررنا لأن نغني بمناسبة يوم الاستقلال (النكبة) أغان تمجيد لدولة إسرائيل، وهاهي ترجمة بتصرف للأسطر المحفورة تماما في ذاكرة أبناء جيلي: "في عيد استقلالنا صدحت العصافير بالغناء. وغمرت السعادة أرض الوطن - سواء في السهل أو في الوادي - سواء في القرية أو في المدينة". وبطبيعة الحال صفقنا في جميع الأنحاء، سواء في السهل أو في الوادي، حتى حكمتنا السلطة العسكرية.
شارك معلمون ومشرفون عرب في البرامج الدراسية، ولكن في الحقيقة لم يكن تعيين السلك التدريسي مسئولية المنظومة التربوية المدنية، وإنما مسئولية المنظومة الأمنية التي تقف خلف القلاع وتسمح أو ترفض التعيينات، وكل هذا كي "كي تعلم كل أم عربية أنها أودعت مصير حياة أبنائها في أيدي المُعلمين الأصلح لهذا الأمر" أتمنى لتلك الأيام أن تمر بلا عودة.
كما أنني أخطأتُ حينما كتبتُ قصائد في المرحلة الثانوية. كنتُ أراسل البرامج الأدبية في إذاعة صوت إسرائيل بالعربية، وكانت القصائد مقروءة. وذات يوم تلقيتُ خطابا من الإذاعة، وفيه طُلب مني أن أؤلف قصائد لتُلقى بمناسبة يوم الاستقلال (النكبة)، وهكذا اكتشفتُ "دولة إسرائيل العربية"، وهكذا انقطعت العلاقة بيننا.
حينما أقرأ مقترحات الأفلام التي تطلب شبكة الإذاعة إنتاجها الآن أثق أنني لا أخطئ بقولي أن: "إسرائيل العربية" ما تزال حية وتركل. حان الوقت كي تنتهي هذه التهديدات السلطوية المماثلة للسلطوية العربية.