Tuesday, May 14, 2013

تصوُر خلق العالم في القبّالاه اللوريانية



مقدمة:-
كان لانتشار الفكر الفلسفي في كتابات علماء الدين اليهودي أثره في العقائد اليهودية، فقد كان يتعارض أحيانا مع ما ورد في العهد القديم والتلمود، ونتيجة لذلك قامت حملات شديدة ضد أصحاب هذا الاتجاه الفلسفي، ووصل الأمر إلى حد تحريم كتاباتهم واتهامهم بالكفر.
ومهدت حالة الخلاف والتعارض تلك إلى ظهور حركة جديدة في الفكر الديني اليهودي، وهي حركة "القبّالاه" التي ظهرت في القرن الثالث عشر الميلادي، وظهرت في البداية كي تبحث عن طرق أخرى بخلاف الفلسفة لمعرفة جذور الوجود الكوني والعالم، وتتميز "القبّالاه" - التي يسميها البعض التصوف الديني اليهودي - باتجاهها نحو التأويلات والأفكار الباطنية.
وتنقسم "القبّالاه" إلى اتجاهين: الأول تبلور في القرن الثالث عشر الميلادي في كتاب "الزوهر - הזוהר" وهو الكتاب الأساسي للـ"قبّالاه"، والذي يحتوي على فلسفتها الرئيسية، ونشأ هذا الاتجاه في المشرق.
أما الاتجاه الثاني فقد ازدهر في الأندلس - حيث عاش اليهود في كنف الحضارة الإسلامية- وجنوب فرنسا، وقام هذا الاتجاه على كتاب "الزوهر"، غير أنه تطور واتبع علماؤه مناهج جديدة في البحث والإقناع.
في السطور القليلة القادمة أتحدث بإيجاز عن تصور قصة الخلق لدى "القبّالاه اللوريانية – הקבלה הלורינית" بمراحلها الثلاثة.

القبّالاه اللوريانية:
هي ذاك التطور الذي طرأ على حركة "القبّالاه" (المسمى العبري الذي يقابل اتجاه التصوف في الإسلام)، حيث برز ذلك الاتجاه بعد طرد اليهود من الأندلس، وسُمِي باللوريانية نسبة إلى الحاخام "يتسحاق لوريا اشكنازي- יצחק לוריה אשכנזי"( 1534- 1572)، والذي لٌقِب بالأسد المقدس، وهو الذي أضاف كثيرا إلى حركة "القبّالاه" عن طريق أفكاره الجديدة.
وكان للعالم القبّالي "موسى كورديفو- מושה קורדיפו" تأثير بالغ على تطوير فكر "القبّالاه"، ونقلتِها من الاتجاه القديم المتمثل في "قبّالاه الزوهر" إلى الاتجاه الحديث، الذي سُمّي فيما بعد ب"اللوريانية" أو "المشيحانية"، وقد تتلمذ "موسى كورديفو" على يد الحاخام "يوسف إفرايم كارو- יוסף אפרים קארו"، ويعد "كورديفو" بمثابة حلقة الوصل بين "قبّالاه الزوهر" و"قبّالاه لوريا" الذي تتلمذ على يديه بعد ذلك. 



الزوهر واللوريانية:-
"القبّالاه اللوريانية" في مجملها لا تعتبر انقلابا على "قبّالاه الزوهر"، ولكن توجد بعض الاختلافات بينهما، فـ"الزوهر" تهتم بماهية الخلق، وجذور العالم في الأساس، أم "اللوريانية" فتضيف إلى اهتمامها بخلق العالم اهتماما خاصا بالخلاص والنهاية، وربما يكون السبب في هذا نشأة مؤسسها وأنصارها، حيث كانوا جماعات من اليهود الذين طُردوا من الأندلس بعد دخول المسيحيين، فشعروا بعمق الإحساس بالشتات، ومن ثم تركز تفكيرهم في الخلاص والانعتاق.
كما أن تصور خلق العالم في "القبّالاه اللوريانية" يتناقض مع مثيله في "الزوهر"، حيث تضع "اللوريانية" علاقة ما بين البداية – أي الخلق- والنهاية، أي الخلاص.
يُسمى الرب في "القبّالاه اللوريانية" "اللانهائي" أو اللامحدود – האין סוף"، وذلك رمز للإله الذي لا يحده زمان، ولا يسعه مكان، وفي المقابل فإن العالم المادي الذي خلقه الإله هو عالم محدود وليس كاملا،  والتجليات العشرة أو "السفيروت – הספירות"  هي وسائط التأثير التي يفيض الرب من خلالها عناصر العالم المادي، دون أن ينتقص ذلك من قوته شيئا.

التجليات (السفيروت – הספירות)  في الزوهر واللوريانية:-
ينحصر تصور خلق العالم في "القبّالاه" بصفة عامة في أن العالم يتكون من عنصرين رئيسين، هما "السفيروت – הספירות" أو التجليات، والعالم المادي،  و"السفيروت" هي الرابطة التي تربط الرب بصفته الإله الخالق، بالعالم المادي المخلوق، ويمكن أن تكون هذه العلاقة بين الخالق والعالم المخلوق عبر التجليات متأثرة إلى حد ما بفكرة التثليث في المسيحية، و"السفيروت" عبارة عن عشرة دروب من الأشعة الصادرة من الإله، وهي كما وردت في "الزوهر":


1-        التاج (כתר).
2-        الحكمة (חכמה).
3-        الفهم أو الإدراك (בינה).
4-         الفضل أو الرفعة (חסד).
5-        القوة أو البأس (גבורה).
6-        الجمال (תפארת).
7-        الخلود (נצח).
8-        الجلال أو البهاء (הוד).
9-        الأساس (יסוד).
10-         المُلك (מלכות).
وهي التجليات العشرة التي تعتبر أساس الحياة، أو شجرة الحياة، ويجمعها الشكل التالي وفقا للمنظور "القبّالي":
 


وقد يختلف التجلي الرابع، وهو "الفضل" أو "الرفعة" لدى بعض المدارس القبّالية ليكون العظمة (גדולה)، كما في الشكل التالي:


 

ويقسم "الزوهر" التجليات العشرة إلى ثلاث مجموعات، كل منها تعد كونا في حد ذاتها، وتتكون من ثلاثة عناصر، وتُقسم على النحو التالي:
-            المجموعة الأولى: التاج وهو يمثل المرحلة الأولى في عملية الخلق، إضافة إلى الحكمة والفهم اللذين يتحدان، وينتج عنهما المعرفة.
-            المجموعة الثانية: ونشأت من إشعاع أجزاء المرحلة الأولى، ويمثلها الفضل والقوة، ويتحدان لينتج عنهما الجمال.
-            المجموعة الثالثة: وتضم النصر والبهاء والأساس.
أما التجلي العاشر وهو "المُلك" فيعد كونا بمفرده.
ولم تختلف "السفيروت" في "اللوريانية" عنها في "الزوهر"، وإنما التطور الذي حدث لها هو في طريقة خلقها، كما أن الإله قد خلق لها أوعية تحتويها، وحملت هذه الأوعية أسماء "السفيروت" نفسها.

مراحل خلق العالم في اللوريانية:-
أولا: الانكماش أو الاختزال (צמצום):-
تبدأ مراحل خلق العالم في "قبّالاه الزوهر" بفيض من الإله، في حين أن "قبّالاه لوريا" تبدأ فيها قصة الخلق بعملية الانكماش أو الاختزال، وقد وردت الكلمة – الانكماش- في "المدراش" للإشارة إلى أن الإله الخالق قد قام بالانكماش، أو اختزال ذاته كي يدخل قدس الأقداس.
إلا أن عملية الانكماش لدى "لوريا" تختلف عما ورد في المدراش، حيث تبدأ بانكماش الإله اللانهائي داخل نفسه، أي أنه ركّز ذاته داخل ذاته، وهذا يخالف ما ورد في المدراش بأن الإله ينكمش داخل كيان آخر.
ونتيجة لانكماش الإله في داخله، تكون فراغ سُمي "الفضاء الأول" أو "القديم" "החלל הקדמון"، أو "الفضاء الفارغ - החלל הפנוי"،  وهو الفضاء الذي أحدثه الإله كي يخلق العالم فيه.

الإله (קדוש ברוך הוא) لا نهائي.

الإله  يخلق فراغا بالانكماش.




الفيض الإلهي (אצילות):-

بعد الانكماش يقوم الإله بعملية أخرى، تسمى عملية "الفيض الإلهي- אצילות"، حيث يلقي أشعة من نوره الذاتي إلى داخل الفراغ الذي خلقه بالانكماش، ويتخذ هذا النور شكلين، أحدهما عبارة عن دوائر متحدة المركز، والتي تكون التجليات (السفيروت) العشرة، والشكل الثاني عبارة عن خط مستقيم تمخض عنه ظهور "الإنسان الأصلي" أو الأول "אדם קדמון"، وأيضا ينتج نور داخل الأوعية الناشئة، إضافة لنور محيط.

الإله يفيض من نوره التجليات العشرة.

هذه الدروب من الفيض الإلهي التي تنبعث من الرب لا تقلل من قدرته ونوره اللامحدود، ويعود جزء من الفيض الإلهي إلى مصدره بعدما ينتشر في الفضاء الأول، وهذه العملية المتمثلة في الانبعاث والانتشار ثم رجوع جزء من الفيض تسمى التمدد أو الانسحاب.
ثانيا: تهشيم الأوعية (שביברת הכלים):-
حينما سقطت أنوار الفيض الإلهي على الفضاء الأول بعد الانكماش ظهر الإنسان الأصلي أو الأول، وهو غير آدم أبي البشر، وهذا الإنسان الأصلي تتجسد فيه بعض مظاهر الألوهية، ويقف فوق أربعة عوالم:
-            عالم الفيض الإلهي (עולם האצילות).
-            عالم الكون، أو الدنيا (עולם הבריאות).
-            عالم الخلق (עולם היצירות).
-            عالم العمل (עולם העשיה).
وبعد ذلك انتظمت التجليات العشرة داخل الإنسان الأصلي، وكانت في البداية تتخذ شكل دوائر متحدة المركز، ثم اتخذت بعد ذلك شكل خط مستقيم، ولكل هذه التجليات أوعية، غير أن الأوعية كانت في تلك المرحلة ما تزال رقيقة وضعيفة.
بعد خلق الإنسان الأصلي بدأت أنوار الفيض الإلهي تنبثق من جسده، فمن رأسه تلألأت أنوار هائلة تبلورت في أشكال حروف مكونة الأسماء المقدسة للرب، وكونت الأنوار المنبثقة من أذنيه وأنفه وفمه عالما يسمى "العالم المعقود - עולם העקודים"، وسُمِي بذلك لأن أنواره تعقدت أشعتها، ولم يعد ثمة تمييز بينها، أما الأنوار المنبعثة من عيني الإنسان الأصلي فقد تحولت إلى تجليات (سفيروت) وأوعية، وكونت تلك الأنوار ما يسمى "العالم المنقط" أو "المرقط" "עולם הנקודים" أو عالم الفوضى "עולם התוהו"، لأن الأنوار لم تصل بعد إلى شكل تركيبي ثابت.
في هذه المرحلة وقعت حادثة تهشيم الأوعية، أو "موت الملوك" "מיתת המלכים"، فقد اتخذت أنوار الفيض الإلهي شكل شرارات وهي منبثقة من الإنسان الأصلي، ويبدو أنها كانت شرارات قوية للغاية، واتجهت نحو الأوعية التي تحوي التجليات العشرة.
عندما اصطدمت الشرارات بالأوعية، لم تتأثر الثلاثة الأولى التي تحوي تجليات التاج والحكمة والفهم، فقد تحملت الشرارات الإلهية ولم تتهشم، أما الأوعية الستة الباقية، التي تحوي باقي التجليات، الفضل والقوة والجمال والنصر والجلال والأساس، فلم تتحمل شرارات الفيض الإلهي، فتكثرت تماما، وتبعثرت شظاياها مع بقية من الفيض الإلهي ملتصقة بها، أما آخر وعاء، الذي يحوي المُلك، فلم يتهشم تماما، وإنما انكسر جزء منه فقط. وبعد ذلك انسحبت أشعة الفيض الإلهي إلى مصدرها الأول.

العالم بعد تهشيم الأوعية.

ظهور الشر في العالم:
تحولت شظايا الأوعية المتهشمة إلى مواد صلبة، بعدما التصقت بها نثرات من الشرارات الإلهية، وصارت الشظايا المُحطمة أكثر قوة من ذي قبل، وأصبحت تلك المواد الصلبة ممثلة لقوى الشر في العالم، فقد كونت شظايا الأوعية مع شرارات الفيض ما يُسمى "عالم القشور"- עולם הקליפות".
ورغم أن الأوعية التي تهشمت قد خضعت على الفور لعملية إصلاح، فإنها لم تخل من وجود شوائب، أو ما يمكن تسميته بالخبث، وهي ما يُطلق عليها "قوى النجاسة - כוחות הטומאה".



رغم ما يبدو عليه الأمر من فوضى، فإن "لوريا" يعتقد أن الإله قد تعمد ذلك، من أجل صالح العالم المخلوق، فمن منظوره أن الأوعية إذا ما ظلت سليمة، لصار العالم بالتالي سليما، مليئا بالخير، ولشابه البشر الملائكة، حيث لا مكان لخطأ أو ارتكاب ذنب، وبالتالي لا أمر أو نهي أو جزاء أو عقاب، لكن بظهور قوى الشر والخطيئة في العالم يستطيع الإنسان الصالح أن يسمو فوق نزواته، ويجتاز أخطاءه، ليعبر اختبار الرب له.
ثالثا: الإصلاح (התיקון):-
من أجل إعادة الأمور إلى نصابها؛ تبدأ مرحلة إصلاح الأوهية المُحطمة، وشاركت في تلك العملية التجليات الثلاثة الأولى التي لم تنكسر أوعيتها، وقد تكونت بدلا من الأوعية ما يُسمى بالصور أو الملامح "פרצופים"، فتحول التاج إلى "أريخ أنبين – אריך אנפין" وتعني باللغة الأرامية "ذو الأنف الطويل" أو "الصبور"، والحكمة والفهم تحولتا إلى "أبا – אבא" و"إماي- אמא" أي "الأب" و"الأم"، وبعد تزاوج الأب والأم وُلد "زعير أنبين- זעיר אנפין" أي "قصير الأنف" أو "قليل الصبر"، وهذه الصورة تقابل الستة أوعية بدءا من "القوة" حتى "الأساس"، أما آخر الأوعية وهو "المُلك" فقد تحول إلى "نوقفا دزعير- נוקבא דזעיר"  أي "زوجة زعير".
تقوم هذه الصور أو الملامح بوظيفة معينة من أجل إصلاح الخلل الذي نتج بعد تهشيم الأوعية، حيث يتزوج "زعير أنبين" من "نوقفا دزعير"، وهذا الزواج يولد انسجاما ما بين العدل والرحمة في الذات الإلهية.
تهشيم الأوعية والشتات:
وفقا لرؤية "لوريا"؛ فقد خلق الإله الإنسان الأول وهو آدم، وخلق له حواء، كي يساعدانه في إصلاح العالم، لكن آدم ارتكب الخطيئة بفعل إغواء الحية (كما ورد في سفر التكوين عن قصة الخلق)، فبدلا من أن يقوم آدم بجهد من أجل الإصلاح؛ فإنه ارتكب المعصية التي أدت إلى انتشار الفوضى في العالم الأرضي، وهو ما يشبه ما حدث عند خلق العالم بعد تهشيم الأوعية، والنتيجة هي انتشار الشر في العالم، فصارت المخلوقات في شتات دائم.
كانت مجموعات اليهود التي طُردت من الأندلس الإسلامية من أكثر الجماعات الدينية اهتماما بـ "القبّالاه اللوريانية"، نظرا لأنها تشتمل على أفكار التشتت والانفصال وما يتبع ذلك من إصلاح، وهنا يُلاحظ وجود تشابه ما بين تهشيم الأوعية وتبعثر الشظايا، وما بين شتات بني إسرائيل، كذلك يوجد تشابه – وفقا لتصور جماعات القبّالاه اللوريانية- بين إصلاح الأوعية المُهشمة، وبين خلاص بني إسرائيل، الذي يُتوج بظهور المسيح المخلص، لكن عملية الإصلاح هنا- أي الخلاص- تعتمد بصفة أساسية على بني إسرائيل أنفسهم، فاليهودي الذي يلتزم بتعاليم الدين والعبادات يستطيع أن يقوم بعملية الإصلاح، بأن يُنحي الشر جانبا، والعكس بالعكس، فببعده عن الدين اليهودي تتوقف عملية الإصلاح.
مما سبق يُلاحظ أن أتباع الفكر "القبّالي اللورياني" يشبهون أنفسهم بالشرارات الإلهية، التي تبعثرت بعد تهشيم الأوعية، وكأنهم جزء من الإله، وهو ما يزعمونه دائما باعتبارهم "شعب الله المختار"، وهم في نفس الوقت سبب الشتات الذي حدث بفعل خطاياهم، وفي أيديهم الخلاص والإصلاح بالعودة إلى تعاليم الديانة اليهودية والالتزام بها

مراجع المقال:
1-    عبد المجيد، محمد بحر (د): اليهودية، مركز الدراسات الشرقية، جامعة القاهرة، سلسلة الدراسات الدينية والتاريخية، العدد (20)، 1422هــ/ 2001م.
2-    المسيري، عبد الوهاب (د): موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المجلد الخامس، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى،1999م.
3-    ناظم، منى (د): المسيح اليهودي ومفهوم السيادة الإسرائيلية، دار الهلال.

4-    האינציקלופדיה העברית, כרך עשרים ותשעה (29).