Friday, August 25, 2017

قانون القومية في إسرائيل: يهودية الدولة ونفي الآخر

منشور على موقع شبكة رؤية الإخبارية، اضغط هنا للانتقال

   تقترب ساعة الصفر أكثر من أي وقت مضى، فقد أفادت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أن أعضاء من الكنيست الإسرائيلي سيجتمعون رغم انتهاء دورة الانعقاد وحلول العطلة الصيفية، وذلك لبحث الوصول لموافقة نهائية على "قانون القومية"، وهو قانون الأساس الذي بموجبه تكون إسرائيل "الوطن القومي لجموع الشعب اليهودي"، ويتحرك اليمين الحكومي لسنه في أسرع وقت ممكن، بعد تمرير الموافقة على القراءة الأولى له في مايو الماضي.

لجنة قانون "القومية" خلال جلستها الافتتاحية بالكنيست
   وفقا لما نقلته الصحيفة؛ فإن أعضاء اللجنة المكلفة بمناقشة مقترح القانون الجديد بصدد الاجتماع – رغم عطلة الكنيست- لمناقشة المشروع، والتعجيل بإصدار القانون، رغم العاصفة التي أثارها المقترح في إسرائيل.
من المتوقع أن يقدم الكنيست الصيغة النهائية من القانون خلال الشهر القادم، كي يتسنى للمحكمة العليا في إسرائيل التصديق عليه، من أجل أن يصبح قانون أساس ملزما، وكل الشواهد تؤكد نجاح السعي الحثيث لحكومة اليمين الإسرائيلي برئاسة «بنيامين نتنياهو» ليصدر هذا القانون قبل انتهاء ولايته.
   «نيسان سلوميانسكي» عضو الكنيست عن حزب «هابيت اليهودي» ورئيس لجنة القانون والقضاء مؤخرا صرح أن اللجنة ماتزال تناقش بنود المقترح الذي قدمته لجنة حكومية من أجل الوصول إلى صيغة قانون متفق عليها بأغلبية أعضاء الكنيست، وأضاف «سلوميانسكي» أن «نتنياهو» كان يريد أن تنتهي المناقشات ويجرى تصويت على القانون خلال الشهر الفائت، لكن اللجنة أرجأت التصويت إلى حين الوصول لصورة كاملة من القانون الذي يعتبر "استثنائيا".
يهودية الدولة أولا:-
   أعدت مقترح القانون لجنة حكومية مشكلة من مجموعة من الوزراء، من بينهم «ياريف ليفين» وزير السياحة وعضو الكنيست عن حزب «هاليكود»، و«أييلت شاقيد» وزيرة القضاء وعضو الكنيست عن حزب «هابيت هايهودي»، ووفقا لما نشرته صحيفه «هاآرتس» من بنود مقدمة في طيات المقترح الحكومي؛ فإنه على المحكمة العليا أن تُغلب الهوية اليهودية على الطابع الديمقراطي للدولة الإسرائيلية إذا ما تعارض التوجهان (اليهودي والديمقراطي)، وهو الأمر الذي يفسر تراجع البند الذي يصف إسرائيل كدولة ديمقراطية ليأتي بعد بنود الصدارة التي ترسخ ليهودية الدولة، وهذه البنود مفادها أن "دولة إسرائيل هي البيت القومي للشعب اليهودي، وفيه يتبلور طموحه لتقرير المصير بناء على إرثه الثقافي والتاريخي على أرض إسرائيل الوطن التاريخي للشعب اليهودي، ويهدف هذا القانون الأساس لتحديد هوية دولة إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي"، وفيما يخص اللغة العربية فالقانون ينص على أن تكون لغة ذات وضع خاص، وليست اللغة الرسمية الثانية كما هو منصوص عليه حاليا، وهذا يعني أن مواد القانون تختص فلسطيني الداخل بالإقصاء، وتسعى لتهويد أرض فلسطين.
يهودية نعم؛ ديمقراطية لا:-
   أفادت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن اللجنة الوزارية المكلفة بإعداد القانون كانت مترددة بين صيغتين، الأولى تصف إسرائيل بـ"دولة يهودية ذات نظام ديمقراطي" والثانية بدون أي ذكر للديمقراطية، والاكتفاء بصيغة "دولة يهودية وفقا للمبادئ التي جاءت في وثيقة إعلان دولة إسرائيل"، وما يلفت النظر في الصيغة الثانية أن وثيقة إعلان قيام إسرائيل لم ترد فيها كلمة ديمقراطية.
قانون أبارتهايد:-

مانشيت جريدة الاتحاد الناطقة باسم الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة بعد إقرار القراءة الأولى للقانون
   إبان تقديم المقترح الحكومي لبنود القانون في مايو الماضي هبت عاصفة شديدة في الكنيست، إذ أعلن العديد من النواب اعتراضهم على القانون، واعتبره بعضهم عنصريا بامتياز، ومع تصاعد الخلاف تم طرد بعض نواب الكنيست من جلسة النقاش التي جرت الشهر الفائت، ومنهم «مسعود غنايم» عضو تكتل «القائمة العربية المشتركة» ، فيما غادر المكان اعتراضا على القانون «أحمد الطيبي» و«جمال زحالقة» (عن القائمة العربية) و«زهافا جلئون» (عن حزب ميرتس)، الذين لقوا هجوما شديدا من «أورون حزان» نائب رئيس الكنيست وعضو حزب هاليكود الذي صرخ فيهم "اذهبوا إلى غزة".
   من جانبه شن «أحمد عودة» رئيس «القائمة المشتركة» هجوما لاذعا على الحكومة، واتهم لجنة القانون بالضعف، وعدم الرؤية، لأنه "لا توجد دولة طبيعية تسن قانونا عنصريا كهذا، ينفي وجود الآخر غير اليهودي، ويغير التاريخ الراسخ للأرض"، واستطرد عودة: "لقد ولدنا هنا على هذه الأرض، ونحن أبناء هذا الوطن لا غيره، فلم نأت إلى دولة إسرائيل، بل هي التي جاءت إلينا، والعربية هي لغة هذا المكان، وأبناء هذه الأرض جزء من الوطن لا ينفصل عنه، ووفقا لهذا القانون ستخضع القوانين كافة أمام الهوية اليهودية فقط، فليس هذا بقانون أساس، وإنما قانون فوق الأساس".
   في حين اعتبر «يتسحاق هرتسوج» زعيم المعارضة بالكنيست وعضو تكتل «المعسكر الصهيوني» أن اليمين الحكومي يصر على إشعال النار التي ستحرق إسرائيل بتقديمه هذا القانون، وهاجمت «تسيبي ليفني» هي الأخرى مشروع القانون، معتبرة إياه خرقا لمبادئ حزب الليكود نفسه، وهو الحزب التي كانت تنتمي له في السابق.
   على الجانب الآخر اعتبرت وزيرة القضاء «أييلت شاقيد» أن القانون يعد فرصة تاريخية، ووصفه عضو الكنيست «أمير أوحانا» (عن حزب هاليكود) بأنه يحافظ على حقوق الأقلية، لكنه يقرر بوضوح أن الحقوق القومية هي لليهود وحدهم. 
   ولم يستطع نواب المعارضة منع تقديم القانون، إذ تم تمرير القراءة الأولى بموافقة 48 عضوا في مقابل 41 عضو كنيست، والآن تسعى حكومة نتنياهو لتمرير الموافقة النهائية على القانون الذي يؤكد على التوجه الإسرائيلي اليميني لتبني الاستقطاب الحاد،  ولتهويد فلسطين كلية.

Sunday, August 20, 2017

مستقبل نتنياهو: مصير أولمرت أم صحوة الموت للمعارضة


بقلم: محمد عبد الدايم
منشور على موقع شبكة رؤية الإخبارية، اضغط هنا للانتقال

     يتصدر المستقبل السياسي لرئيس الحكومة ورئيس حزب «هاليكود» (التكتل) الحديث الدائر في إسرائيل حاليا، فعلى مدار اللحظة تخرج تقارير إعلامية إسرائيلية تتحدث عن مساعي محققي الشرطة الإسرائيلية للخروج بلائحة اتهام بالفساد ضد «نتنياهو»، وربما زوجته «سارة» وابنه «يائير» كما أشرنا في التقرير السابق يائير نتنياهو على درب والديه، في الوقت الذي تحاول المعارضة الإسرائيلية أن تتشبث بالفرصة لإسقاط «نتنياهو» وحكومته، تحت مبررات عدم إمكانية ترك زمام الدولة له في خضم هذه المستجدات، ففي الشهر الماضي قدم حزب «يش عاتيد» (يوجد مستقبل) بزعامة «يائير لابيد» طلبا لسحب الثقة من حكومة «نتنياهو» بذريعة مفادها أن: "رئيس الحكومة غارق في التحقيقات ولا يملك تفويضا أخلاقيا وجماهيريا باتخاذ قرارات مصيرية لإسرائيل بما أنه توجد مخاوف حقيقية من قيامه باتخاذ قرارات حاسمة مبينة على المصلحة الشخصية لبقائه السياسي وليس على أساس المصلحة الوطنية. فالأمر الصحيح الذي يجب القيام به حل الحكومة"، كما قدم نواب «المعسكر الصهيوني» }تكتل أحزاب معارضة على رأسها حزبي «هاعفودا» (العمل) و«كاديما» (إلى الأمام){ طلبا آخر لسحب الثقة للسبب نفسه باعتبار أن حكومة «نتنياهو» تهتم بالمقربين وليس المواطنين الإسرائيليين، أما حزب «ميريتس» (طاقة/ نشاط) اليساري فقدم طلبا لسحب الثقة تحت شعار "رئيس حكومة قيد تحقيقات".

تضييق الخناق حول نتنياهو وترقب المعارضة
     حتى اللحظة لم تفلح مساعي المعارضة- مجتمعة أو منفصلة- في إسقاط «نتنياهو»، رغم أن وسائل الإعلام تتحدث عن قرب تقديم لائحة اتهام بحقه تتعلق بقضيتين شبه محسومتين، الأولى هي قضية العطايا التي تلقاها وأسرته من رجال أعمال، والثانية هي قضية جريدة «يديعوت أحرونوت» والتي كشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن تفاصيلها، ومفادها أن «نتنياهو» اتفق مع «أرنون موزيس» ناشر الجريدة على أن يحد الأول من انتشار جريدة «يسرائيل هايوم» التي تُوزع مجانا في مقابل أن تتوسع  «يديعوت أحرونوت» في تلميع نتنياهو وأسرته ووقف هجومها عليهم.
     إلى الآن لم تثلج لجان التحقيق صدور المعارضين لنتنياهو وتصدر لائحة اتهام قوية بحقه أو بحق أسرته، فيما يبدو رئيس الوزراء الإسرائيلي صامدا، لأن حكومته ما تزال في ظهره، ولا يبدو أن أحدا من أحزاب الائتلاف يجد مصلحة في إسقاط هذا التكتل اليميني- الحريدي، على غرار ما حدث في الولاية الثالثة لنتنياهو، ففي ردها على مطالبته بالاستقالة؛ صرحت وزيرة القضاء الإسرائيلي «أييلت شاقيد» (عن حزب هابيت هيهودي) أنه لا يتعين على رئيس الوزراء الاستقالة حتى لو صدرت بحقه لائحة اتهام، بل في حالة إدانته رسميا فقط، فيما قدم حزب «هاليكود» طلبا للتحقيق مع «يتسحاق هرتزوج» (عن المعسكر الصهيوني) و«يائير لابيد» بسبب إدعاء انتفاعهما على خلاف القانون من «موزيس» ومعه «شلدون أدلسون» ناشر صحيفة «يسرائيل هيوم»، فيما تبدو محاولة من حزب رئيس الوزراء لقلب الطاولة على المعارضين الذي تجمعوا لنهش «نتنياهو» وإسقاطه سياسيا.
صمود اليمين في الحكومة الإسرائيلية
     لا يبدو «نتنياهو» – حتى اللحظة- صامدا فحسب، بل وكأنه يستهين بالمعارضة، ويصرح أن الأمر لا يعدو كونه هجوما ممنهجا ضده وضد عائلته، ربما لأن وضع ائتلافه الحالي أفضل بكثير منه في ولايته السابقة، فرغم أنه في حلف سياسي مع أحزاب دينية وحريدية متشددة بينما هو علماني؛ فإن الأيديولوجية اليمينية التي تستند إليها حكومة نتنياهو الحالية تجعل الوفاق بين أحزاب الائتلاف سلسا، فالمؤشرات الواضحة تشير إلى أن تحول إسرائيل نحو الدولة الدينية يسير بخطى أسرع من ذي قبل، وعلى هوى الأحزاب الدينية والحريدية، ويبدو صوت الجماعات التي يطلق عليها "القومية" مسموعا، خصوصا فيما يتعلق بالجدل حول يهودية الدولة.
صحوة اليسار الإسرائيلي
     فيما يحاول اليسار الإسرائيلي لملمة أشلائه التي تبعثرت بعد أن شاخ حزب هاعفودا (العمل)، وتراجع بانهزام كبير أمام سيطرة اليمين بتفريعاته، مما جعله يضطر إلى تكوين تكتل «المعسكر الصهيوني» الذي يحظى بـ 24 مقعدا بالكنيست الحالية، في مقابل 30 لصالح «هاليكود» وحده.
     جاء فوز «آفي جفاي» مؤخرا برئاسة حزب «هاعفودا» مفاجئا إلى حد كبير، ليس لأنه أقصى «عمير بيرتس» الذي كان مدعوما باتحاد النقابات العام (هاهستدروت)، بل لحداثة انضمامه للحزب، حيث لم يكن عضوا قبل عام 2016، وقبلها خاض تجربة قصيرة في حزب «كولانو» ( كلنا) بزعامة «موشيه كحلون» لم تسمح له بأن يكون ضمن مرشحي الحزب للكنيست آنذاك، غير أنه تولى حقيبة البيئة في حكومة نتنياهو عام 2015، وما لبث أن استقال منها عام 2016، بعد تقلد «أفيجدور ليبرمان» وزارة الحرب (الدفاع)، لينضم بعدها لـ«هعفوداه» ويصبح في يوليو الماضي رئيسا للحزب.
     هذا الصعود السريع والمفاجئ لـ «آفي جفاي» منح بعض المعارضين أملا في أن يكرر تجربة «يائير لابيد» المذيع التلفزيوني الذي أصبح رئيسا لحزب ونجح بعد أول انتخابات يخوضها في مزاحمة «هاليكود» وتكوين ائتلاف معه،  وحاليا تمتلك كتلة حزبه «يش عاتيد» 11 مقعدا بالكنيست.
معركة اليسار ليست مع نتنياهو وحده

     يأمل أنصار «هاعفوداه» وبعض المعارضين أن يكون «جفاي» هو النجم الجديد، الذي سطع في الوقت المناسب ليضخ الحيوية في حزبه، ويزيح «لابيد» جانبا، ويقف أمام «نتنياهو»، لكن الأمر ليس بالأحلام وتغيير الوجوه المتسارع كما يجري في حزب «هاعفوداه»، بل يتعلق الأمر أولا باسترجاع مكانة الحزب في الشارع الإسرائيلي، ومحاولة فرض بديل يساري لليمين المتطرف الذي يحكم سيطرته على المؤسسات الإسرائيلية والمجتمع، فليست المنافسة القادمة بين «جفاي» و«نتنياهو» وحده، بل مع أحزاب يمينية حجزت مكانة عريضة في الساحة السياسية الإسرائيلية.
     بينما يتحالف حزب «هاعفوداه» مع «كاديما» المتألف أساسا من بقايا مارقة من حزب «هاليكود»، لم تستطع هزيمة نتنياهو سابقا؛ يتكتل الأخير مع القوى اليمينية والدينية الحريدية، ورغم الملاحقات القانونية الكثيرة التي تطارده، فإنه يبدو حتى الآن قويا أمام تحقيقات الشرطة والأحزاب المعارضة، كما أن الأمر لن تحسمه ملفات الفساد وحدها، بل ما يطرأ على الساحة الخارجية من تطورات، خصوصا في ملفات إيران وسوريا، ودور حزب الله فيها، ومصير داعش، ومستقبل السلطة الوطنية الفلسطينية.



Friday, August 18, 2017

نثرية ذاتية

    لست صبارة حمول، لست جملا صبور، روحي تقتات من الحزن لقيمات، تغمس فيه وتأكل باعتياد.
   أهدهد الوجع، ربما يخمل، أراه يتثاءب فوق صدري، حين أغطيه بخفة لينام؛ إذ به ينتفض فزعا مفزعا.
  لا أخفيك سرا يا صديقي، ربما لست صديقا لا يهم؛ أن الشعور الجامح باقتراب الأجل يدنو مني حتى تلفح أنفاسه وجهي، ولا أخشاه، ولا أعافه، بل أكشر له عن أنيابي الشائخة، وأشق له طريقا إلى صدري أن هيت لك.
أقترب بخطوات متسارعة من الانهيار الكبير، سأسبق جبال الجليد بالطبع، وربما الكوكب الذي سيصدم أرضنا عما قريب في محاولة انتحارية منه لتخليصنا من الشقاء.
لا أنام كثيرا، لا أنام جيدا، النوم يهرب وينزلق، والأرق يصمد ويسيطر ويرفع راية تنغرز عصاها في الصدر.
ككل عام، تتزامن لحظات التداعي، وإرهاصات السقوط الحر مع حلول ذكرى ميلادي في يوليو الحار، ذكرى لا تزال تكرر نفسها في رتابة مبتذلة، لا تنفك عن إقلاق مضجعي، رغم محاولاتي البائسة لطمسها، وكلما أوشكت على النجاح، واستدعاء النسيان لمحوها؛ إذ بـ"فاعل خير" تنشق عنه الأرض؛ يقرر وأنفاسه تتلاحق من فرط سعادة لا أرى لها سببا عقلانيا أن يذكرني بذكرى تتثاءب حتى تفيق، فتنهض من فوق حشيتها المتربة وتجاعيد وجهها تختلط مع علامات من أثر ما، ربما مدية أو ضربة قديمة.
هذا العام أفضل من الثلاثة والثلاثين الذين سبقوه إلى لحدهم؛ لم يتذكرني سوى شخص أو اثنان ربما، لم أفتح حاسوبي لأسمع – كعادتي- "عدت يا يوم مولدي"، فخدمة الانترنت كانت منقطعة، وبالتالي حاسوبي في عداد الموتى، كما أحلامي، كما سمكتي "مهجة" التي أتذكرها بالخير، كما شجرة الفل وجارتها الياسمينة، كلهم رحلوا وأنا لم يأن أواني بعد حتى اللحظة.
تطيب نفسي حين أتخيل الهدوء الأخير، أرنو إليه وأشعر به يحتضنني، كتبت عنه قصة كاملة، عنه وإليه، وجاءت فكرتها منه، أفكر فيه وأنا أتأمل في مرآة صغيرة شعيرات بيضاء تسللت من رأسي الأشيب إلى لحيتي التي استطالت على غير عادتها وعادتي ونمت مشعثة، ربما هربت الشعيرات البيض من زحام أخواتها في رأسي، وربما أقلقها تصادم الهلاوس في جدار عقلي، تصادما أكاد أسمعه، وأشعر به بالتأكيد.
نعم ألاحظها؛ نظرات دهشة ترتمي علي من هنا وهناك، نظرات استنكار ربما، وربما نظرات ريبة، مثل التي كانت على وجه أمين الشرطة في لجنة مرور ترك الجميع واستوقفني وأنا أقود، أحيانا أكتشف وجود نظرات شفقة تهيم حتى تلتصق بي، لا أعيرها بالا، ألقيها بعد أن أكورها بأصابعي كغلاف قطعة حلوى يعطيني إياها موظف الكاشير بدلا من الفضة الباقية بعد شراء مستلزمات البيت التي صارت تقل كثيرا وترتفع قيمتها جدا.
حتى نظرات الخوف الحنون المخلص في عيني أمي لا تخيفني، تثير في نفسي ألما لأنني أسبب لها ألما، ووجب على الألم أن يكف عنها، فأسعدها حينا يا إلهي.
أتذكر مقدمة قصتي "قنطرة إلى الماضي" التي تجشأتها على الورق دفقة واحدة: "لم أفهم لماذا يعاودني حلم الطفولة المخيف، حين وقفت أمام المرآة أعلى الحوض نظرت إلى وجهي وأنا أُفَرشُ أسناني، تخيلته يتموج في حركةٍ مستمرةٍ من أعلى لأسفل، توقفت عن تحريك الفرشاة هنيهة وفركت عيناي، اختفت الضبابية أمامهما قليلًا ولم تختف التموجات، أرى وجهي في المرآة ليس وجهي، جبهتي ليست جبهتي التي أعيش بها، عيناي لا تخصاني، والسواد تحتهما كسخام الفرن الذي كنا نلون به أصابعنا ووجوهنا، بينما تعد جدتي وأمي وخالاتي العجين على المطارح وتقدمنه للحاجّة أخصائية الجلوس أمام الفرن، ممسكة بعصا رفيعة من الجَريد وأخرى من الحديد معقوفة في نهايتها، أنفي أكثر انبعاجًا من أنفي، أذناي تكادا تتمددان لأسفل، فمي الذي تخترقه فرشاة الأسنان ويسيل منه خط من المعجون مع اللعاب أشبه بفم مصاص دماء يخشى النور، يدخن غليونًا ويسيل الدم على جانبيه، وذقني تترهل لأسفل حتى تكاد تصل لبداية صدري." والآن أشعر بروحي تترهل وليس ذقني، وجغرافيتها واد مقحل ليس إلا أتيه فيه.
يوليو وأغسطس؛ آه منهما، حرارة تذيب أرواحنا وقيظ يشوي أجسادنا، يلقيان فوق صدري حجارة ذات بروز جارح، تسقط من حالق بهبوط جامح، وتركن فوقي بهدوء سارح، يوليو يحمل في طياته ذكرى تاريخ ميلادي، الذي استبدلته أمي في الأوراق الثبوتية بتاريخ آخر في أواخر أغسطس، من الرمضاء إلى النار، كما جرت العادة حينها، وددت لو اختارت شهرا آخر، ثم ساءلت نفسي: ما الفارق؟!.
كتبت نصوصا أدبية كثيرة، ربما تر النور يوما ما، وربما تظل جثثا بلا كفن كسابقاتها، قرأت كتبا كثيرة ونصوصا شعرية ونثرية، طمعت أن أكتب مثلها، أو بصقتها كرها لها، أقلعت عن بعض الأدوية المفروضة لدواع صحية مزمنة، لشعوري بالملل من تكرار العادات، وابتلاع الكبسولات على مدار اليوم، وتوفيرا لمال تتناقص قيمته حتى لم يعد يدفئ جيبي أو يفي بحاجة متواضعة، كما هو حال الملايين.
أخرجت بزات رسمية من خزانة ملابسي مضطرا لأحضر حفلات زفاف، وقدمت التعازي لأصحاب في وفاة ذويهم ممن سبقوني ورحلوا، وأنا ما زلت على عادتي: أحرص يوميا على قلب ورقة النتيجة، وأنظر في الساعة كل دقيقة، ربما...
تصادفني كثيرا سطور قصتي "الهدوء" بمجموعة "كراس تسعة أسطر":
"يحيرني حقيقة، لا أفهم ماذا يفعل الآن، يتجول في الغرفة مجددا، يتدحرج، يقفز عاليا ليمسك بالمصباح الأبيض المبهر، يحجب الضوء للحظة بجسده، شكرا لك، نعم أريد بعض الظلام، أريد بعض السكوت، أريد الرحيل، اصرخ كما تشاء، تجول وافرد أجنحتك، دعك من هؤلاء المحيطين بنا، لا تعطلك الأسلاك والأنوار، اسمح لي فقط أن آخذ نفسا عميقا وأغمض عيني، لأتدحرج من وراء جفوني في منحنيات حياتي القصيرة، صعود، هبوط، راحة، صعود، سقوط، توجع، وقوف، حُب، إقلاع، بلوغ، خوف، حُب، تخرج، ابتسامة ثقة، عمل، آه، تشبث، شك، حب، زواج، خسوف، اشتباك، أبوة، عمل أكثر، صعود، تربع على القمة، ثم سقوط حر، آه ثم آه، دم وجع دمع، راحة، وقفة، نقاهة، تسلق، تمسُك، تنفس عميق، مشيب خفيف، هبوط هبوط هبوط، سقوط، وقوع، رقود بلا حراك، أنا ظل في الظل ونحت في الماء وخط في الهواء.
يسير المرء للأمام ليكتملَ عامٌ آخر من حياته، فتتسع المسافة خلف ظهره بما يزيد احتمالية الخطر، يجلس بجانبي أخيرا، يهدأ الهدوء، نظرات مضطربة ممن حولي، بخلافهم لا أشعر بالاضطراب، منذ سنين وقد كففت عن الشعور بالدهشة والصدمة، طوبى لهم، طوبى لمن يشهقون اندهاشًا يتأوهون تعجبًا يُصْدمون ذهولا، لا تهمني نظراتهم، لا أعير همهماتهم بالي، أرفض أن تتحول ساحة نومي إلى مسرح للعبث،  ابني وحده من وددت احتضانه الآن، لكن يبدو أن النهوض ممنوع، يحجب مزيدا من الضوء بعباءته، رغم أنه يلفني الآن أشعر بالبرد، لكن اختفت أصوات الضوضاء، ألمح حركات مشوشة من خلف ردائه، لا أعيرها انتباهي، أخيرا زارني، استعطفته كثيرا فعطف علي، رجوته فلبى، الآن أرى أبي بوضوح، أبي الذي في السماء، الآن يتسلل الغروب، دعوه يحمل روحي، لأذهب مع بقية باقية من شعاع النور الأخير، فلتجعلوا تذكرة ذهابي بلا رجوع."
في عمر الرابعة والثلاثين زائد شهر أعلن دون خزيان تقلدي لمراتب الهزيمة كافة، وتقبلي لأوسمة الانكسار، وتقلدي نياشين الاندحار الذاتي، جثث جيشي تراكمت في أراضي معاركي، قبلما أحارب، فلم أجد داعيا لارتداء ثياب الحرب ودرعها، لم أحقق شيئا في ثلاثة وثلاثين عاما، ولم أحقق في الرابع كذلك، منذ يونيو لم أكتب منشورا على حساب تواصل اجتماعي، وكانت خطوة رائعة، أشغل نفسي بأطروحة الدكتوراة مجبرا، وبوظيفة في الصحافة باختياري، وكتابات أدبية لا أدري لم تُلح لتتراص أمامي فأدونها تخلصا من إلحاحها. الهاتف مغلق أغلب الأوقات، وباب السماء أحسبه لم يغلق بعد في وجهي، يناديني الهدوء وأناجيه، روحي اعتلاها الصدأ، وشاخت أطراف أحلام كانت تظن سذاجة أن أوانها قد حان أو سيأتي، لكن موتها في مهدها ربما ذلك أفضل، وحقيق بي أن أغطيها بهدوء، قبلما تلثهم جبينها جوارح الزمن.

أرض


محمد عبد الدايم. 

Friday, August 11, 2017

إذا كان رب البيت بالدف ضاربا! نتنياهو الابن على درب والديه


بقلم: محمد عبد الدايم

تقرير منشور على موقع شبكة رؤية الإخبارية اضغط هنا للانتقال.

رغم ما يبدو عليه أنه ما يزال مهيمنا على السلطة؛ وممسكا بخيوط الحكم بإسرائيل، فإن الملاحقات الأمنية المتعلقة بتهم الفساد تركض خلف أسرة «نتنياهو» كثيرا، وربما الحديث عن التحقيقات مع «بنيامين نتنياهو» في تهم فساد ليس جديدا، لكن المستجد هو أن الشبهات قد طالت الابن «يائير»، ففي بداية العام كانت سلطات التحقيق في إسرائيل تبحث في أمر الشاب (26 عاما) في اشتباه بالفساد حيث نسبت له ووالديه تهم الحصوص على هدايا من رجلي أعمال، وفيما يخص طرف الابن فيها فإنه – بحسب الشبهات- قد نزل بفندق فخم بمدينة نيويورك حينما صحبه والده إبان رحلته للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2015، وذلك في غرفة ضمن مجموعة غرف فخمة استأجرها الملياردير الأسترالي الأمريكي «جيمس باركر»، كما أن الابن كان يخرج في عطلات مولها الملياردير المذكور، وعلى متن طائرته الخاصة أيضا، واستمر هذا الأمر في العام 2016، حيث نزل الأب والابن في عزبة يملكها «باركر» بولاية كولورادو، ناهيك عن حصول «سارة نتنياهو» على مجموعة تذاكر مجانية لحفل أحيته في إسرائيل المغنية «ماريا كاري» الرفيقة السابقة للملياردير، وقد دفع الأخير مقابل هذه التذاكر.
مع الإفراج المبكر الشهر الماضي عن رئيس الوزراء السابق «إيهود أولمرت» (71 عاما) بعد قضائه عقوبة بسبب تهم فساد ورشوة، يتنامى الحديث مجددا عن فساد الرؤوس الكبيرة في إسرائيل، خصوصا مع تلاحق الشبهات والاتهامات في السنوات الأخيرة.
من شابه أباه!
على ما يبدو؛ فإن الأبناء يسيرون على نهج الآباء، فمثلما اتهم رئيس الوزراء الأسبق «أريئيل شارون» بالفساد، ورغم أن التهم لم تثبت ضده؛ فإنها ثبتت بحق ابنه «عمري»، حيث قضت محكمة إسرائيلية في عام 2006  بحبسه بعد ثبوت اتهامه بالإدلاء بشهادة كاذبة، والتزوير، بعدما جمع تبرعات من مؤسسات خارج إسرائيل، كمساهمات في حملة والده الانتخابية. وحاليا تحوم شبهات الفساد حول «يائير نتنياهو» بينما ما تزال الاتهامات بحق والديه طازجة، والحديث الآن عن احتمال تقديم لائحة اتهام بحق السيدة الأولى «سارة».
كايا تثير صراعا متعدد الجبهات
في منتصف العام 2015 انضمت عضوة جديدة لأسرة «نتنياهو» المكونة من الرجل الأول في إسرائيل وزوجته وابنيه «يائير» و«أفنير»، والعضو الجديد هو الكلبة «كايا» التي أعلن رئيس الوزراء حينها تبنيها.
تعتبر خطوة تبني حيوان أليف ضمن الأسرة خطوة ذات أهداف سياسية في الغالب، لذا يقبل عليها الكثير من المشتغلين بالسياسة في العالم، غير أن «كايا» كانت مؤخرا سببا في خصومة على صفحات موقع فيسبوك، حيث زعمت إحدى جارات الأسرة الأولى أن «يائير» حين يخرج بالكلبة لا يجمع فضلاتها كما ينص القانون، وحين دعته لذلك تجاهلها، بل وأشار إليها بإشارات بذيئة، ولما نشرت السيدة الواقعة على فيسبوك مدعمة بالصور، رد «نتنياهو» الصغير بعجرفة مهاجما السيدة، والصفحة التي نشرت الواقعة، وكرر إشارته البذيئة بـ"إيموجي" الإصبع الأوسط.
نقلت الواقعة صفحة "61" التابعة لمجموعة «مولاد» اليسارية المعارضة نقلا عن جارة «نتنياهو»، مما دفع بـ«يائير» لمهاجمتها واتهامها بـ"حصولها على تمويل غامض ومحاولة إبادة إسرائيل"، لتعلن المجموعة عن رفعها لدعوى قضائية ضده بتهمة الافتراء وتشويه السمعة، للمطالبة بتعويض مادي يصل إلى 150 ألف شيقل.
تأتي دعوى الافتراء والتشهير بحق «نتنياهو» الابن متزامنة تقريبا مع دعوى مماثلة رفعها أبوه ضد الصحفي والأديب «يجال سرنا»، وهي الدعوى التي كسبها رئيس الوزراء وزوجته مؤخرا بعدما أقدما – في تصرف نادر – على مقاضاة الصحفي الذي كتب في مارس 2016 منشورا على صفحته بموقع فيسبوك زعم فيه أن «سارة نتنياهو» أوقفت موكب رئيس الوزراء وألقت الرجل الأول في إسرائيل بالشارع بعدما صرخت عليه، إثر خلاف بينهما.
وفي يونيو 2017 قضت المحكمة بأن مزاعم «سرنا» لا أساس لها، وتندرج تحت بند التشويه، وألزمته بدفع تعويض مادي للثنائي «نتنياهو»، وعقب «سرنا» على الحكم ضده باعتباره غير مفاجئ في مثل هذه الأوقات "المظلمة".
معركة الأمراء: الصغار يتصارعون
"«يائير» ابن بابا" هكذا علقت محررة بجريدة «هآرتس» على مناوشات الفتى على فيسبوك، وقد وجه كذلك في منشوره المتبجح هجوما مضمرا ضد «أريئيل»، نجل رئيس الوزراء السابق «إيهود أولمرت»، وبين سطور هجومه متعدد الجبهات كتب «يائير» ما يشير لاتهام «أولمرت» الصغير بأنه مثلي الجنس وعلى علاقة بأحد الفلسطينيين، فما كان من «أريئيل أولمرت» إلا الدخول على خط المواجهة، التي سماها محرر بموقع إسرائيلي بـ"معركة الأمراء"، فكتب «أريئيل» منشورا باللغتين العبرية والعربية على صفحته الشخصية على فيسبوك، ينفي عن نفسه اعتباره مثلي، دون أن يهاجم المثليين، وبسخرية اتهم «يائير» بالعنصرية والهوموفوبيا والتحريض، والعيش عاطلا بالمنزل الرسمي لرئيس الوزراء على حساب دافعي الضرائب، وتحت حماية أمن رئاسة الحكومة، وألقى بوجهه مزاعم الفساد المرتبطة بعلاقته ووالده مع الملياردير «باركر».
ربما كانت اللغة العربية في منشور «أريئيل» محاولة للظهور بأنه لا يحمل عداوة مع العرب مثل عائلة «نتنياهو»، في الوقت الذي غربت فيه بالتأكيد شمس «إيهود أولمرت» عن أرض السياسة الإسرائيلية، كما أن صفحته يتابعها الكثير من الأدباء اليساريين المعارضين، وحظي منشوره بأكثر من ستة آلاف إعادة نشر.
قد تجد مجموعة "مولاد" اليسارية غايتها في منشور «يائير»، لترد الصاع لوالديه بعدما حركا دعوة ضد «سرنا» لسبب مشابه، كما أعلن «أريئيل» أولمرت أنه لن يتردد في رفع دعوى افتراء هو الآخر، وكأن فضلات «كايا» قد ألقيت في بهو منزل رئيس الوزراء على يد الابن، الذي يثار أنه يتدخل هو وأمه في سياسة إسرائيل، بل وتعتبره سارة وليا للعهد، فهل يسير «يائير» على الخط السياسي أم يلقي هو أو أحد والديه مصير «أولمرت»؟!

  

Monday, August 07, 2017

تديين مناهج التعليم في إسرائيل- صراع جديد بين المتدينين والعلمانيين

تقرير منشور على موقع شبكة رؤية الإخبارية اضغط هنا للانتقال.
محمد عبد الدايم
في ختام خطاب النصر الذي ألقاه «آفي جفاي» إبان فوزه برئاسة حزب العمل الإسرائيلي مؤخرا قرأ جزءا من بركة "الذي أحيانا" )دعاء يقال في اليهودية عند حلول بعض الأعياد أو الحصول على شيء جديد ويقال فيه مبارك أنت أيها الرب إلهنا ملك العالم الذي أحيانا وأوجدنا وأوصلنا لهذا العالم)؛ وهو الأمر الذي أثار موجة من ردود الفعل المستنكرة في صفوف العلمانيين واليسار الإسرائيلي، لكنه أجاب على ردود الفعل بكل بساطة بقوله "أنا يهودي، ومن الطبيعي أن أتلو "الذي أحيانا"، ومن المفروض علي كيهودي أن ألتصق بالهوية اليهودية والشريعة، ولا يجب أن يقول لي أحد أنني كزعيم لحزب معروف انتماؤه لليسار ممنوع أن أتلو هذا الصلاة أو غيرها، وفي الوقت نفسه لن يفرض علي أحدٌ محتوى ديني يهودي لا أهتم به".
جاءت هذه اللفتة من الرئيس الجديد لحزب العمل اليساري الإسرائيلي وبعدها ردود الفعل المضطربة لتواكب عاصفة كبيرة تهب في أرجاء إسرائيل،  فالحديث الدائر في أوساط المجتمع الإسرائيلي الآن هو عن عملية منهجية لـ "تديين الدولة"، أي تغيير البنية الأيديولوجية التي قامت عليها إسرائيل من العلمانية إلى التدين، ومن مطالعة التقارير المكتوبة والمرئية في إسرائيل يتضح حجم الخلاف الظاهر الآن على مختلف الأصعدة؛ السياسية والثقافية والاجتماعية العامة.
 يشير الكاتب «رءوفين جال» المتخصص في الشئون العسكرية الإسرائيلية في كتاب من تحريره بعنوان "الدين والسياسة والجيش في إسرائيل" أن "التديين" – إن جازت التسمية العربية للمصطلح- لفظ جديد إلى حد ما، بدأ في الظهور في الأوساط الإسرائيلية مع السعي الحثيث للمتدينين لتغيير بنية الجيش الإسرائيلي، وسحب البساط من تحت العلمانيين، بهدف السيطرة على مراكز القوى الكبيرة في أقسام الجيش، ومن ثم تحويل جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى جيش من المتدينين اليهود في معظمه.
هذه العملية تلقي بظلال مخيفة في نفوس العلمانيين من الإسرائيليين، استشعارا لخطورة الهيمنة المتدينة على أواصر الذراع العسكري الأقوى لإسرائيل، ومن ثم تعقيد الوضع الميداني والعسكري على الأرض، وهو الوضع المعقد أصلا ويتفاقم يوما يعد يوم مع إصرار السلطات الإسرائيلية المتعاقبة على  سياسات الاحتلال وسلب الأرض الفلسطينية والتوسع في الاستيطان وعدم عودة اللاجئين، وما يصاحب هذه السياسات من جرائم يومية يرتكبها جيش الإحتلال.
الخطوة التي أقدم عليها «آفي جفاي»؛ يراها المحلل والصحافي الإسرائيلي، والمتخصص في شئون المتدينين في إسرائيل  «يائير شلج» بأنها منطقية ومقبولة، في ظل مساعي حزب العمل لكسب أرض جديدة يحاول بها أن يزاحم أحزاب اليمين التي تسيطر على المشهد السياسي الإسرائيلي بشكل كبير، مع تراجع اليسار وتوغل المتدينين بصورة لافتة للنظر.
يعتقد شلج أن خطوة الرئيس الجديد لأكبر أحزاب اليسار الإسرائيلي موضوعية ووثيقة الصلة بما يجري على الأرض من مساع حثيثة لـ"تديين" المجتمع الإسرائيلي، لكن ما يؤرق «شلج» وغيره من العلمانيين حاليا ليس مجرد دعاء ألقاه رئيس حزب علماني، وإنما ما يحدث في المؤسسة التعليمية الحكومية في إسرائيل.
في مقال له بجريدة معاريف؛  حمل عنوان " عاصفة التديين- يجب تدريس اليهودية لكن ليس بهذا الشكل"؛ يتحدث «شلج» عن القلق الذي ينتاب العلمانيين في إسرائيل مع تنامي الحديث عن عملية تديين ممنهجة لبرامج التعليم الحكومية في إسرائيل، ومع استمرار الخصومة المعتادة بين المتدينين والعلمانيين، ويرى «شلج» أن تدريس الشريعة اليهودية وتطعيم المناهج الدراسية بمواد وبرامج تتناول اليهودية كديانة أمر لا بأس به، لكنه يستشعر في الوقت نفسه محاولة لتغيير بنية البرامج الدراسية في المدارس بما يجعل الجانب الديني طاغيا على المناهج الدراسية التي يتم تدريسها لأبناء العلمانيين في إسرائيل.
اشتعلت الأجواء بشكل كبير بعد أن أثارتها منظمة إسرائيلية يسارية متشددة تعرف باسم "مولاد" (مركز التجديد الديمقراطي)، حيث استنكرت محاولة فرض منهج جديد لتدريس كتاب صلوات يهودية على تلاميذ مدارس حكومية يرتادها أبناء العلمانيين، وهو ما اعتبرته منظمة "مولاد" محاولة من اليمين الصهيوني المتشدد للسيطرة على المجتمع الإسرائيلي برمته.
اندمج رواد مواقع التواصل الاجتماعي في إسرائيل سريعا مع هذا الجدل الدائر، خصوصا وقد تزامن الحديث عن شكوى تلميذة من أن إدارة المدرسة التي ترتادها قد أمرتها بالعودة لمنزلها بسبب ارتدائها بنطلون قصير للغاية، لكن اتضح فيما بعد أن نمط الزي في هذه المدرسة قد اتفق عليه سلفا أولياء الأمور مع إدارة المدرسة.
استلزم الأمر أن يظهر مدير عام وزارة التعليم الإسرائيلية «صموئيل أفوآف» في مداخلة تلفزيونية مع البرنامج المسائي المعروف «السادسة مع عوديد بن عمي» لينفي وجود عملية "تديين" ممنهجة، ومما قال أن الوزارة تحققت بعمق في الشكاوى الواردة، وفحصت نحو 80 كتابا دراسيا، ولم يكن أي من هذه الكتب قد تقرر على التلاميذ في عصر الوزير «نفتالي بِنِط»، والأخير كما هو معروف رئيس الحزب الصهيوني الديني المتطرف المعروف «البيت اليهودي».
استطرد «أفوآف» قائلا "إن الطالب يسير على رجلين، الصهيونية واليهودية، وليس صحيحا ما يشاع بتخصيص ساعات إضافية لتدريس مواد تتعلق بالديانة اليهودية على حساب فروع دراسية أخرى".
مؤخرا صرح وزير المالية السابق وعضو الكنيست «يائير لابيد» رئيس حزب «يش عاتيد» (يوجد مستقبل) أن الحديث عن محاولة للـ"تديين" غير صحيح بالمرة، وقال في معرض رده على أسئلة تتعلق بهذه المسألة "إن الأمر لا يعدو كونه خوفا متبادلا بين كل معسكر سياسي وآخر في إسرائيل، ومن ثم تتراشق الأطراف كافة بالاتهامات".
فيما خرج وزير التعليم الإسرائيلي «نفتالي بنط» بتصريحات تلفزيونية ليسخر من الأمر، ونفى وجود منهجية لـ"تديين" المناهج الدراسية بالمدارس الحكومية، كما شن هجوما لاذعا على منظمة "مولاد" معتبرا إياها "تسعى لهدم إسرائيل، وضعضعة الهوية اليهودية والصهيونية للدولة، ولا يجب السماح بأمر كهذا".

لا يقتصر الحديث عن "تديين" الدولة على المنظومة التعليمية، بل تخطاه إلى مؤسسات إسرائيلية مختلفة، في حين خرجت أصوات متشددة تتهم العلمانيين بمحاولة حثيثة لعلمنة كل شيء؛ وأن إسرائيل تعاني من التطرف العلماني، خرجت كذلك أصوات علمانية مناهضة تزعم أن التديين يتوغل في كل مناحي الدولة.