Thursday, September 19, 2013

ستار



قصة عبرية مُترجمة إلى العربية
تأليف: ألموج بيهر
ترجمة: محمد عبد الدايم
منشورة على موقع اللسعة النسخة العربية، اضغط هنا للانتقال. 

كل ليلة تقابله من وراء الستار، يبدآن حديثهما في هدوء مقتضب، وعندئذ، كما تقول تحديداً لنفسها، يداي هلكتا في النهاية، أصابعي ضعفت، كما لو كانت مخصصة فقط للتقليب بين الصفحات. ودون أن تنتظر أن يتحدث أعدت لنفسها كوباً فيه كيس شاي وأوراق كثيرة أيضا. أفرطت في السكر الأبيض دون حساب، وتُقلب بلحن طارق شجي، بعدها سمعت صوته، يخبرها بقدر من الجدية أنها تصير أجمل من آن لآخر، دائماً عرف أن جسدها يشبه هيئة الملائكة والآن يعرف هذا، صوته ينتهي بطقطقة قبلة، وهي تحاول مجاراته بالكلمات، تقول أنها سمعت أنه بالبيت الرباني بوسط العالم يوجد هناك لقاء بين العوالم، أهل السماء الأرض، الأوائل واللاحقين، ولذلك بدأت تفكر أن بيتهما الصغير هو مركز عالم، ربما عليه أن يقيم بيت المقدس الجديد، كي يهدئ قليلاً من الخلافات، تضحك، بيت مقدس صغير ومليء بالنور بدلاً من الظلام الدامس، وربما يضحك، أقسمت أنه يبتسم بثغر ضاحك، ووجهه مجرة كواكب، يشير إلى نيته تهدئة قلبها الثائر، ليتحمل معها قليلاً من صدع جوفها.

وهي يومياً كالصاعدة على الجبال، فجأة تتنفس وتتنفس كالمستغرقة بالتفكير حتى الانفجار، تحذر نفسها، تهمس بلا قوة، بلا ضجة، بلا معجزات عظيمة، دون ثورة على أنظمة الكون، وإنما صمت خافت استحضره الله ليهدئ القلوب ويضع بها ألواح عهد جديدة. لكن وقت الليل يتسرب كمذاق مشروبات الشاي المتبقية في الأكواب وما يظل بها، وأحياناً ترى قدميه تتجهان بعيداً عنها فتناديه إلى أين تذهب؟إلى أين تبتعد، فينظر خلفه ووجهه يكتنفه الظلام، وهكذا طوال الليل تراودها الأفكار، أحياناً تقرأ المزامير، إلهي إلهي، لماذا تركتني، لماذا هجرتني، وأحياناً تتقيأ قليلاً من الوجبات اليومية التي لم تكف لسد جوعها، تقول من أين المال لشراء وجبات جديدة بدلاً من تلك التي ضاعت وهكذا حتى الصباح، المزامير لا توقف الزمن، ورائحة المعدة المتقلبة تجعل الوقت قاسياً وغير مريح وعديم الرحمة.
وتهذي لنفسها، تقول في الليلة القادمة سيأتي مجدداً، سيبتسم مجدداً، سيضحك مجدداً، سيقول كم هي جميلة، وحينئذ سيذهب لمستقره، ليست واثقة أين سكنه، أهو في السماء؛ أهو بين الأنهار فيشون وجيحون وحداقل، لكن لا يتوقف قلبها عن التفكير، اليوم الرياح هادئة والشمس جيدة، يستيقظ أبناؤها الخمسة من تلقاء أنفسهم، ليُعِدوا شاي الصباح وساندويتشات اليوم، ولا تضطر لمساعدة حتى أصغرهم، تجلس كسيدة، رائحة عرق الليل قد غسلتها عن جسدها، وعندما يذهبون لا تدعي لهم، تجلس وتخبط بقدميها كالمجانين، تقول وهي تدك أركان الأرض: لكنهم أقوياء وليسوا كالرداء البالي الذي يحتاج خياطة، وليسوا كالدخان المتطاير من المواقد على التلال، يئست من الجلوس فأنهضت نفسها بلا رحمة، تقول نوم في ليلة وأرق في ليلة، اليوم يعِد بالنشاط.
 
تضع قدر ماء على النار، تسأل في بالها ماذا تضع فيه، كيف تطبخ حياتها، وتضع دلو ماء في منتصف الحجرة، تسكب فيه خليط صابون، اليوم ستنظف كل أرجاء البيت، وتُعِد أرزاً بعدة ألوان، لن تتزوج مجدداً، رغم كلام أختها، رغم ما تقوله زوجة الحاخام: من الأفضل للأولاد أن يربيهم أب يعمل بالتوراة والكد والأعمال الصالحة، عندما يأتي الأولاد ستطعمهم، تضع قليلاً من الفاصوليا على الأرز، وتخرج لتمسح أرضيات البيوت في أحياء البيوت الواسعة، لتكسب رزقها، لا تضع على جسدها أنواع عطور، ولا تجدد بلوزاتها، ولا تعرف أتغطي شعرها أم تكون حاسرة، تتصرف تارة هكذا وتارة كذلك، ربما في المساء تطلب فتوى من زوجة الحاخام، وأثناء ذلك تغير من تصرفها، تختلس النظر لثلاجات  البيوت التي تنظفها، تفكر فيما ينقصها لكنها لا تجرؤ أن تأخذ شيئا، رغم أنه في أحيان كثيرة تراودها الرغبة، فتقول رحمة على الأولاد، لكن تخاف مما سيقول لها في الليل، ربما لا تبدو مجدداً شبيهة للملائكة في نظره.
تقول زوجة الربي من الجيد للأولاد أن يكون لهم أب، وهي مازالت صغيرة وقوية، ومنحها الله بعض الجمال في جسدها، لكنه يقل كل يوم، لذلك فمن الأفضل قبل هذا أن يخطبها أحد الأرامل، هي تعرف بعض الأرامل من بيوت صغيرة يرضون بها، لكن ربما سمعت عن أرمل من بيت كبير، حقيقة هو أكبر منها سناً بعشرين سنة ووحيد، لكنه ليس بخيلاً وليس فقيراً، وربما يرغب في الزواج منها، ربما غسلت يوماً ما أرضية بيته، ستستمر في الغسيل وستنام في سريره. تحدثت معها بكلمات عتاب، هذا ليس مناسباً  للأولاد، وهي كذلك لن تظل شابة بمرور الأيام، فقط حزينة، وماذا سيقول الأقارب والجيران، في كل الأحول المرأة تحتاج لرجل، ولذلك بدأت تفكر، ربما تتزوج، تستبدل لنفسها بيتاً صغيراً بكبير، وتطبخ من أجله أيضاً، تغسل ملابسه دون أجر وتغسل الأرضية،  ولن ينقص طعام الأولاد.
بعد أن فكرت طويلاً أثناء غسل الأواني ذات صباح أخبرت الأولاد عن مسألة  الانتقال، وبدأت تعد أمتعتهم في صرر، قرروا أن يقيموا مراسم الزواج بكنيس في أحد أحياء البيوت الواسعة، قال إنه سيدعو أصدقائه، وهي تدعو قليلاً من أقاربها، قبل الانتقال جفاها نومها مجدداً، مجدداً أحاديث من وراء الستار، ولاحظت في صوته شيئا من الحزن، واندهشت فقد كان يشجعها على نفس الأمر منذ شهور كثيرة، متوسلاً كي تقول واحداً من اقتراحات الزواج، ولماذا الحزن الآن عندما تقلق هكذا على أولاده وتفعل كما يريد، بدأت تجمع إشارات من  حركاته وأحاديثه، ربما طلب أن تتزوج من أحد أبناء عائلته، ربما من أخيه الصغير، وفقاً لفريضة اليبوم، بعدها فكرت أنه ربما يأسف أن أولاده لم يذهبوا معه لصلاة الجماعة، لن يواصلوا قداس رضا الرب، جمعت كل الإشارات وتذكرت، لن تسكن مجدداً في وسط العالم، ولن تلتقي العوالم مجددا، ستبيع بيتها المهين والحقير في ضاحية البيوت الضيقة، لكن بالتأكيد في هذا المكان لا رغبة لأحد أن يبقى به، هناك نقطة التقاء، وكشفت في ملامح وجهه بين الكواكب كيف سيُخرِج زوجها الجديد ولداً تلو الآخر من البيت، سيكبرون لدى غرباء ويتعلمون لدى غرباء، وحينها سيطالب بملكية جسدها حين يطلب ولداً من صلبه، وجسدها سينكمش جراء الحمل الجديد والأعمال المنزلية.
 خرجت من بيتها لتتزوج، وذرفت دموعاً كثيرة فوق ملابسها وملابس الأولاد الجديدة، نسيت الحاجة لتجديد الملابس، وقفت أمام الحاخام الغريب عنها وأمام عريسها الهَرِم، قالت نعم عندما سُئلت عن رأيها، وعندما لم تُسأل سكتت، فرح ضيوف الكنيس، قليل من الأقارب في الواقع، وكثير من الغرباء، وعندما وضعت خاتماً جديداً في إصبعها رأت أبناءها صغاراً يضيعون في المكان الجديد عليهم، يبحثون عن عش، دخلت البيت الجديد، وفي الفراش الجديد صمتت كما تصمت وارتعشت كما ترتعش، وتبدلت الشهور، لم تنطق عندما طلب منها أن تُخرج الابن الكبير إلى مدرسة داخلية، وكذلك الآخر، حتى آخر الأولاد، وفي بطنها صنعت عشاً لمولود جديد، كانت تعد الشهور المتبقية على ولادته، وتدللت قليلاً عن أعمال التنظيف والطبخ عندما اقترب وقته، وعندما ظهر مجدداً بكت، هدأت عدة أيام ثم أصرت على الذهاب إلى بيتها القديم، قالت إنها نسيت دهانا ما كانت تدهنه على بطنها بعد الولادة ليخفف عنها آلامها.
عادت إلى البيت ووجدته مفتوحاً، الباب بلا قفل والحوائط مغطاة بخطوط من رطوبة مثل خطوط العنكبوت، ولا تعرف إن كان سكانه الجدد يقيمون في البيت أم لا يقيمون، اتجهت إلى المطبخ، وجدت أن الغاز والكهرباء مازالا واصلين، صبت لنفسها ماء للشاي، خرجت إلى الشرفة الصغيرة، قطفت من كل الأوراق الخضراء وألقتها مع الماء لتغلي، وجدت قليلاً من السكر الذي خبأته خلف الدولاب، وصبته كله على الماء الفائر،  جلست، كفا يديها وجدتا دفئاً بجوانب الكوب، وانتظرت حتى الظلام.
وحينها بدأت تهمس لنفسها، تركتُ وسط العالم كي أحيا في ركنه، فقط لأن الوسط مزدحم بينما الأطراف متسعة، لكن هناك ما من أحد تتحدث معه ليلاً، شهور طويلة بلا حديث حقيقي، بلا كلمات متواترة تُريح القلب ليهدأ، وهنا عوالم تلتقي، مبكرة ومتأخرة، وتستطيع أن تدير حواراً، فتحدثت.
حكت عن كل الأحداث معها في الشهور الطويلة، أكثر من تسعة، كيف أضاعت خمسة أولاد، كم عملت وكم طبخت وكم غسلت، أفكار كثيرة كتلك في رأسها، وقت طويل جداً الآن وقد تحدثت دون توقف، تحدثت ولم تنصت، ورويداً رويداً بدأت تتعود مجدداً على بيتها، نفس الحوائط التي تأكلها الرطوبة، أيضاً عندها في البيت الجديد زاد على الرطوبة عمل العناكب، مجدداً نفس الأرضيات المشوهة، مجدداً نفس البرودة في الليل، والشاي قوي وحلو كما يجب أن يكون المشروب، وبدأت تقول لنفسها، غداً سأشتل نباتات توابل جديدة في الشرفة، غداً سأمسح الأرضية، غداً سأشتري قليلا من الخضروات لأصنع بها وجبة، ربما أطبخ حساء أو أرزاً بعدة ألوان، وظلت هناك حتى النوم، وفي بيتها الجديد أصاب الجنون الزوج الجديد والرضيع الجديد، يبحثون عن مرضعة ولا يجدون، حتى ضغط الزوج على ثدييه وأعطاه لفم الرضيع ليرضع، وهذا هدّأه فصمت.  
استيقظت صباحاً في بيتها، فرحت بمحادثة الليل، وقالت لتجمع حولها الأولاد الذين تفرقوا، أرسلت خطاباً لولد، والولد الثاني أخبرته بمساعدة الولد الأول، والولد الثالث ساعدها قريب للعائلة، والولد الرابع قد سمع من تلقاء نفسه، والولد الخامس وُجد أنه كان يأتي لينام في البيت ليال كثيرة، فجاء ووجدها ودخل إلى فراشه، تأوهوا جميعاً معاً بسعادة غامرة، وسألوا أمهم عن أخيهم الصغير، ألن ينضم إليهم، ثم ناموا واستيقظوا، ذهبوا إلى المدرسة، وهي نظفت كل البيوت الواسعة باستثناء بيت زوجها الجديد، وفي الليل تستمع لزوجها القديم.
بعد نصف سنة؛ حينما تألمت حلمات الزوج الجديد وفم الرضيع، ذهبت في الصباح لزيارتهم، وجدتهما في غرفة الاستقبال، ولدان ضائعان، سكتت أمام غضب هذا، واتجهت تهدّئ غضب هذا، ظلت معهما طوال اليوم، نظفت البيت وأعدت طعاماً، وعندما حل الظلام توجهت لتأخذ رضيعها معها إلى بيتها، رمقت بنظرها فضاء البيت كي يستطيع هو أيضا أن ينضم إليهم، كان منعزلا للغاية وضائعاً قبل أن ينضم إليهم، تجمعوا بالبيت القديم زوج وزوجة ورضيع في فراش، وخمسة أبناء في فراش آخر.
في مساء اليوم، عندما ناموا جميعا باستثنائها عادت لتختلس النظر من وراء الستار، حكت لزوجها الذي تخيلته جالساً على منصة قضاة، في بداية أيام زواجهما، عندما لم تكن تعرف علاقة الفتاة بالرجل، ولم يعرف طريقة النسر في السماء، وكانا يتخبطان أياما طويلة معاً، ولشهور كاملة بعد أن تزوجا ظلا يكثران محاولات غير ناجحة، حتى جامعت رجلا غريبا بأحد البيوت لتتعلم منه أمور الزواج، وعادت إلى زوجها تعرف وتدرك، ابنها البكر ليس منه، وابن الشيخوخة ليس منه، وبينهما أربعة أبناء منه، وتطلب غفرانه وعنايته، رأته يطأطئ رأسه فانتظرت حكمه، وظل صامتاً، قالت: لا أريد أن أستميلك بكلمات غير مباشرة ملتوية، أريد أن تصدق كلامي المباشر، نظر إليها؛ كما لو كانت من الأرض تأتي عيناه وليس من السماء، وسمعته يهمس لها بهدوء شديد، أنه عرف كذلك في حياته وغفر أيضاً لما حدث، أعدت كوب شاي وظلت مستيقظة طوال الليل، بدون المزامير، فقط تطلعت للسماء، حينما نهض زوجها الجديد من  نومه ليبحث عنها، أعد لنفسه كوب شاي ليجلس معها في الخارج.




الكاتب والشاعر ألموج بيهر אלמוג בֶּהַר
     أديب وشاعر إسرائيلي، من أصل عراقي، ولد في مدينة نتانيا عام 1978، وتخرج من قسم الفلسفة بالجامعة العبرية في القدس، في عام 2005 فاز بالمركز الأول في مسابقة القصة القصيرة التي نظمتها جريدة "هآرتس" عن قصته :" أنا من اليهود – אנא מן אל יהוד"  والتي نشرها بعد ذلك مع مجموعة قصصية أخرى، وتمت ترجمة هذه القصة في مجلة الهلال المصرية، على يد الباحث د. محمد عبود (جامعة عين شمس)، وهذه القصة تتناول معاناة شاب إسرائيلي يهودي شرقي، من أصل عراقي، حيث يعاني أزمة هوية، تتمثل في حنينه لأرض أجداده العراقيين، وفقدانه للنطق العبري الإسرائيلي، وانقلاب لسانه للنطق العربي، وتتناول القصة من هذا المنطلق الأزمة التي يعانيها اليهود الشرقيون في إسرائيل( رابط ترجمة د. عبود للقصة ) كما ترجم له كذلك د. عبود قصة قصيرة بعنوان "بين ريتا وعيوني بندقية"، وهي قصة قصيرة تحمل معارضة للقصيدة المشهورة "شتاء ريتا الطويل" التي كتبها الشاعر الراحل "محمود درويش". (رابط ترجمة القصة على يد د. عبود)
  وللكاتب قصة قصيرة أخري عن غزو العراق بعنوان: "كيف أمسيتِ بغداد؟" مشحونة بعواطف جياشة تجاه العراق الذي وقع أسيرا في قبضة الاستعمار الأمريكي. وعدة قصائد، من أبرزها: "تلك القرى الخاوية" عن القرى والنجوع العربية التي طرد أهلها واحتلها الصهاينة بعد 48، ولكنها مازالت تنبض بدقات قلب عربي جريح، وقصيدة "لأخي محمود درويش"، "لغتي العربية خرساء". وله أيضا عدة مساهمات نقدية عرفت طريقها للنشر في صحيفة هآرتس عقب فوزه بالجائزة، ونال جائزة رئيس الحكومة في الأدب العبري عام 2009.
من أعماله الأدبية:
·        צמאון בארות", שירים, 2008 ( ظمأ الآبار – قصائد).
·        "אנא מן אל-יהוד", סיפורים, 2008 (أنا من اليهود – قصص ).
·        "חוט מושך מן הלשון", שירים, 2009 (خيط يجذب من اللسان – قصائد).

الموقع الشخصي لـ"ألموج بيهر":
http://almogbehar.wordpress.com/

1 comment: