Sunday, October 18, 2020

الذكاء الاصطناعي في خدمة الأمن الإسرائيلي

تقرير: محمد عبد الدايم 

نشر معهد دراسات الأمن القومي بحثًا جديدا بعنوان "الذكاء الاصطناعي والأمن القومي في إسرائيل" من إعداد الدكتورة ليران عنتيبي، الباحثة بالمعهد، والمُحاضرة بجامعة بن جوريون، وكذلك تعمل في أكاديمية الطيران التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، وهي متخصصة في بحوث الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الطائرات بدون طيار والروبوتات، والتكنولوجيا العسكرية، كما أنها حاصلة على درجات علمية في العلوم السياسية والديبلوماسية والأمن.

يقع بحث عنتيبي في 136 صفحة، وتقدم فيه تحليلا موسعا لاستراتيجيات الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الاتصالات الحديثة، وتركز على تطوير إسرائيل للتكنولوجيا لتدعيم أهدافها العسكرية والمدنية على السواء، مما جعلها واحدة من الدول الرائدة على مستوى العالم.

فإسرائيل تمتعت مؤخرا بموطئ قدم كبير في حقل الذكاء الاصطناعي، بفضل التوسع في الشركات التكنولوجية الناشئة، ناهيك عن استقطابها لاستثمارات خارجية كبيرة تدشن مشاريع تقنية مكّنت إسرائيل من الوصول لمكانة متقدمة في هذا الشأن.

يكتسب الذكاء الاصطناعي أرضية واسعة تحديدا في مجال الأمن الإسرائيلي والصناعات العسكرية، وبات يمثل موردًا رئيسا للأفكار الحديثة والتقنيات التي تدفع الصناعات العسكرية لتدشين منتجات تعطي الجيش الإسرائيلي والمؤسسات الأمنية الأخرى أفضلية كبيرة في مواجهة التحديات المختلفة، إضافة إلى الاستفادة المعززة من تصدير المعدات العسكرية المعتمدة على تقنيات الذكاء الاصطناعي.

القوة التكنولوجية في إسرائيل

أصبحت إسرائيل قوة تكنولوجية ذات حيثية في الشرق الأوسط، لأنها دشنت واحتضنت كثير من الشركات الناشئة أو المبتدئة، المعروفة باسم شركات "ستارت أب" (startup companies)، وفي السنوات الأخيرة ارتفع عدد هذه الشركات بشكل كبير مقارنة بنسبة ارتفاع السكان.

عملت مؤسسات أكاديمية أولا في تطوير تقنيات الاتصالات والإنترنت والذكاء الاصطناعي، ثم سلمت التقنيات إلى هيئات الجيش والمنظومات الأمنية، وهذه الهيئات نفسها تترك بصمتها العسكرية على التقنيات الحديثة، لتحولها إلى معدات تكنولوجية عسكرية تتلقفها مجددا مؤسسات صناعية وشركات إنتاج، فيصير الناتج من المعدات المبتكرة، والتقنيات العسكرية الحديثة توفي حاجات متطلبة للجيش، وتمنح إسرائيل أفضلية كبيرة في سوق تجارة السلاح والمعدات العسكرية.

هذه الدائرة البيئية الصناعية تمثلها إذًا مؤسسات بحثية وأكاديمية وهيئات أمنية وصناعية، وتعمل كلها في تعاون متصل، حيث تخرج الأفكار من المؤسسات البحثية فتمولها الهيئات الأمنية والعسكرية برأس المال، ممثلا في الميزانيات ورؤوس الأموال البشرية، وكذلك البنى التحتية، من أجل تطوير أنظمة برمجة وذكاء اصطناعي تُوجه لصالح الجيش والهيئات الأمنية التي تنقلها للشركات الصناعية لتنفيذها، ثم يستفيد منها الجيش وغيره من كيانات الأمن الإسرائيلي مرة أخرى.

قادت شركات البرمجيات وتقنيات الاتصال التي نشأت في سنوات الثمانينيات والتسعينيات إسرائيل لتتبوأ موقعًا رائدًا في هذا المجال، ومن هذه الشركات:

-          أمادوكس (Amdocs) تأسست عام 1982، وهي حاليا شركة أمريكية، كانت إسرائيلية في الأساس، وتخصصت في تطوير أنظمة البرمجيات المتعلقة بالفوترة وأنظمة علاقات العملاء، وحاليا تقع مقرات هذه الشركة العملاقة في سانت لويس بالولايات المتحدة، وما زالت مكاتب الإدارة في مدينة رعنانا الإسرائيلية، المعروفة بأنها "متنزه" شركات التكنولوجيا والهاي تيك، وتجذب كبريات الشركات العالمية لإقامة مقرات بها.

-          نايس (NICE Ltd) تأسست عام 1986، ومقرها في رعنانا، إلى جانب مقر آخر في نيوجيرسي الأمريكية، وهي إحدى أكبر الشركات المتخصصة في تطوير أنظمة الحوسبة السحابية، وأنظمة تحليل البيانات، وخدمة العملاء ومنع الاحتيال، وتقدم خدمات لعملاء في نحو 150 دولة على مستوى العالم.

-          تشيك بوينت (Check Point Software Technologies Ltd)، وهي شركة تقنيات برمجة نشأت في 1993، وأسسها الأكاديمي المعروف في مجال الهاي تيك وأمن المعلومات شلومو كرامر، وأصبحت تشيك بوينت واحدة من أضخم الشركات الإسرائيلية، حتى أنها صُنفت بالمركز الرابع على مستوى إسرائيل عام 2015 وفقا لمجلة فوربس، ولها مقران، أحدهما في تل أبيب والثاني في كاليفورنيا، وسبق أن أبرمت اتفاقية تعاون مع مجموعة بي تي (بريتش تليكوم) البريطانية المعروفة في مجال الاتصالات، من أجل أن تطور تشيك بوينت قدرات أمنية إضافية للشركة البريطانية العملاقة، ومن بين هذه القدرات تطوير جدران الحماية في التطبيقات، مما يزيد من تأمين بيانات العملاء.

مثل هذه الشركات التي أصبحت قوى عالمية منافسة في مجالات التكنولوجيا والبرمجيات، إضافة إلى تداول أسهمها في أسواق مالية إسرائيلية وعالمية، رسخت مكانة إسرائيل كقوة راسخة في حقل الاتصالات والأمن المعلوماتي وتخزين البيانات، كما شجعت إسرائيل ثقافة ريادة الأعمال، والتي أدت إلى ظهور شركات ناشئة تهتم بالابتكار، وساهمت هذه الشركات بشكل مباشر في تكوين نظام أعمال بيئي تكنولوجي ناجح يعوض النقص الإسرائيلي في الموارد الطبيعية والبشرية، ويمنح إسرائيل تفوقا كبيرا على نظرائها في إقليم الشرق الأوسط.

خلال السنوات الأخيرة حدث تطور كبير على مستوى مراكز الأبحاث التي تقدم أفكارا ودعما تقنيا للصناعات الرائدة وشركات التكنولوجيا العملاقة التي أصبحت تعمل جنبًا إلى جنب مع الشركات الناشئة التي تركز على الابتكار، ففي الأعوام 2014- 2018 ظهرت زيادة كبيرة بنسبة 120% في عدد الشركات العاملة في هذه المجالات، حيث ارتفع عددها من 512 إلى 1150 شركة تعمل أغلبها في تطوير التكنولوجيا الأساسية للذكاء الاصطناعي والتقنيات الآلية، مثل المركبات ذاتية القيادة  كالطائرات بدون طيار وكاشطات الألغام والروبوتات وأجهزة الاستشعار عن بعد ومنظومة الأمن السيبراني.

هذا النمو المتسارع دفع شركة التحليل العملاقة جارطنر (Gartner)  المتخصصة في البحث والاستشارات في مجالات تكنولوجيا المعلومات، والتي أسسها الإسرائيلي الأمريكي جدعون جارطنر ، دفعها في 2017 إلى تصنيف إسرائيل كدولة "رائدة"، حتى إنها سبقت دولا مثل بريطانيا والصين، وفي 2018 حققت إسرائيل رقما كبيرا في نسبة تمويل الشركات العاملة في مجالات تكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي، حيث بلغ تمويل هذه السوق 25 مليار دولار.

الجيش الإسرائيلي في بداية خط الإنتاج ونهايته

هذه البيئة الحاضنة للتكنولوجيا المتطورة ساعدت في زيادة صادرات إسرائيل من الأسلحة العصرية التي تعمل بتقنيات حديثة وتعتمد على تقليل العنصر البشري في القوات العسكرية، وهذه الميزة التنافسية للصناعات العسكرية ترجع للعلاقة الوثيقة بينها وبين الجيش الإسرائيلي، لاعتماد شركات التقنية والمصانع على الهيئات الأمنية التابعة للجيش في تسريع عمليات البحث والتطوير فالتنفيذ، ومن ثم تعزيز المبيعات في نطاق دولي يتسع يوما بعد يوم.

من المهم الإشارة إلى أن نظام التجنيد الإجباري بالجيش الإسرائيلي، وإقبال المجندين في السنوات الأخيرة على وحدات التكنولوجيا والاتصالات بأسلحة الجيش قد ساعد في تحريك عمليات التحديث المستمر لمنظومة ابتكار المنتجات العسكرية والأسلحة الحديثة، حيث ينخرط المجندون في وحدات البحث والابتكار بالجيش، وبعد تسريحهم يصبحون مؤهلين للعمل في الشركات الناشئة التي تنشط في مجالات التكنولوجيا والاتصالات، مما يمنحهم خبرات أكثر، وأفضلية عن قرنائهم الذين لم ينخرطوا في الوحدات التكنولوجية.

الأجهزة الأمنية الإسرائيلية هي المستفيد الأكبر من هذا التطور الكبير، خصوصا أجهزة الاستخبارات، الموساد وشعبة الاستخبارات العسكرية، حيث أصبحت تمتلك تقنيات حديثة تعطي أرجحية كبيرة لهذه الأجهزة في جمع المعلومات وتحليل البيانات واستخلاص النتائج، مما يساعد في إنجاح الأنشطة العملياتية، مع أقل قدر من الخسائر البشرية، أو انعدامها في عمليات كثيرة.

النطاق الجغرافي الضيق دافع للنمو

بالعودة إلى رعنانا، مركز شركات الهاي تيك والصناعات التكنولوجية،  تجب الإشارة إلى أن وقوع المؤسسات البحثية وشركات التكنولوجيا والمراكز الأمنية في نطاق جغرافي ضيق يعزز التعاون بين الأطراف كافة، فالأمر ليس منوطًا فقط بالتقدم في وسائل الاتصال التي تربط هذه الأطراف بشكل سريع وفعال، وإنما يستلزم التقارب الجغرافي، بما أن كثيرا من التجارب التقنية تعتمد على بنى تحتية تتبع الهيئات الأمنية بشكل كبير، وكذلك يساعد اقتراب المكاتب الحكومية ومقرات الوزارات المختلفة في تسريع الموافقات على الابتكار والتجارب الحية، وفي هذا الوضع تبدو إسرائيل حاضنة لهذا المجال بشكل أفضل حتى من الولايات المتحدة ، فوادي السيليكون الذي يمثل مركز تطوير التكنولوجيا ويحتضن كبريات الشركات الأمريكية العالمية يقع في جنوب خليج سان فرانسيسكو ويبعد مسافة تقترب من 5 آلام كم عن واشنطن العاصمة.

من الابتكار إلى التفوق العسكري والتصدير

هذه البيئة ساعدت إسرائيل على تطوير منتجات تخدم الجيش بشكل خاص، ففي السبعينيات مثلا كان استخدام الطائرات بدون طيار مقتصرا على أغراض التصوير، ولم يحقق الاعتماد عليها في حرب أكتوبر 1973 تفوقا للجيش الإسرائيلي، حيث كانت إمدادًا من سلاح الجو الأمريكي الذي كان يختبر فعاليتها منذ حرب فيتنام، وفي سنوات الثمانينات بدأ الاعتماد على تلك الطائرات في الخداع العسكري وجمع المعلومات، لكن كل هذا لا يُقارن بالتطور الرهيب في الطائرات المسيرة واستخداماتها في سنوات الألفية الجديدة، حيث أصبحت وسيلة أساسية للتجسس وجمع المعلومات الدقيقة للغاية، حتى أن ساعات تحليق هذه الطائرات إبان الحرب الإسرائيلية الثانية على لبنان 2006 قد فاقت ساعات تحليق الطائرات الحربية المقاتلة.