إبراهيم
"شيءٌ ما تحرك برأسه"
بقلم: دفنا بناي
ترجمة من
العبرية: محمد عبد الدايم
منشور في صحيفة
هآرتس الإسرائيلية في 19/ 8/ 2016
وصلت إلى ساحة «فصايل» في شمال غور الأردن طبيبة نفسية
من طرف «أطباء بلا حدود»، فرع أسبانيا. في محاولة منها للتعاطي مع الحالة النفسية
الصعبة لإبراهيم، الطفل البالغ ستة أعوام، لكن إبراهيم لم يكن هناك، فقد نُقل إلى
المستشفى رفقة أمه هاجر وعمه عدنان، بعد إصابته بضربة شمس. ولم لا؟ فليس له بيت،
ويركض طيلة النهار تحت الشمس الحارقة، حتى وصل لمرحلة القيء والإعياء.
ليست قصة إبراهيم جديدة، فالطبيبة النفسية تعالجه منذ ما
يقرب من سنة، في أغسطس 2015 هدم الجيش الإسرائيلي بيت عائلة أبو زيد (وبيت الجيران
كذلك)، وأما إبراهيم فقد "تحرك شيء ما في رأسه" كما تقول الطبيبة
النفسية، وهي الحالة المعروفة بـ«اضطراب ما بعد الصدمة»، في فبراير من هذا العام
هدم الجيش مجددًا بيته، وليس هذا فحسب،
فقد لقي أبوه مصرعه في حادث سير بعدها، وأصيب أخيه الأكبر إصابة بالغة ورقد على
فراش في الخلاء تحت قبة السماء، أصبح إبراهيم شبه فاقد للإدراك.
توقف إبراهيم عن
التفكير، لا يرتاح لحظة وأصبح مخبولا وغير منضبط السلوك منذ ذلك الوقت، كأنما
يطارده شيء ما، وربما بالفعل هو مُطارَد؟ مُطارد من قِبل أمة مُطارَدة تحولت إلى
مُطارِدة، مُطارَد من قِبَل جيش لم يتمكن من تحمُل وجود طفل في السادسة وعائلته،
بعدما طُرِدت من «عين جدي» في 1948، ومن «العوجة» في 1998، تشبثت العائلة بكل ما
أوتيت من قوة بأرض «فصايل» الوعرة، فليس
أمامها مكان آخر تذهب إليه.
ما بقي من
المتاع
تلاحقه أمه دائما، مخافة أن يؤذي نفسه، لكن من يقدر
عليه؟ فنفسه المُعذبة لم تسمح له بالراحة.
بدأ إبراهيم يهدأ السبت الماضي فقط، عشرات الإسرائيليين،
بمبادرة من "المحاربين من أجل السلام"، وصلوا إلى القرية، وصمموا حديقة
ألعاب لإبراهيم وبقية الأطفال في «فصايل»، مكان للابتسامة والسعادة.
متطوعون إسرائيليون يصممون مع الأطفال
حديقة ألعاب
شكّل إبراهيم بيديه مقاعد من الطين، ولوّنها، وحلم...وفي
اليوم التالي جاءت البلدوزرات، أيقظته من نومه وهدمت بيته مجددا.
جئنا إلى «فصايل» للدعم، للمساعدة، وللتعبير عن التضامن،
لكن إزاء العنف والشر لم نستطع أن نقدم سوى عجزنا وعارنا، فكل أبناء العائلة؛
الجدة، والأخين الذيْن جاءا لمساعدة العائلة بعدما لقي الأب مصرعه، وأخوات الأب
الأربعة وأبنائهن تجمعوا تحت الشجرة الوحيدة بالمنطقة، لم نجد كلمات كافية
للمواساة.
كانت هاجر مع إبراهيم ومع سِلْفِها عدنان في المستشفى،
بعدما تبين أن إبراهيم مصاب بضربة شمس، حينما رجعوا – هاجر امرأة مشرقة الوجه بشكل
عام- بدت منكمشة وكسورة، كم ضربة أخرى قد تنزل على رأسها؟ انشغلت النساء كافة
(حينما لا يلاحقن أطفالهن أو يرضعن صغرهن) بقطف أوراق الموالح ، ثم طبخنها داخل
الخيمة الوحيدة التي لم تُهدَم، خيمة الاستقبال، التي تصل درجة الحرارة داخلها إلى
نحو 50 درجة أو أكثر، حاولنا استضافتهن في الخارج مع الجماعة، لكنهن ظللن في
الحرارة فيما هربنا نحن إلى الخارج، إلى حر الصيف المعتاد في «الغور».
في 8 أغسطس واصلت إسرائيل تدابيرها لطرد سكان غور
الأردن، فهدم الجيش مبنيين سكنيين ومبنى كان يُستخدم كمطبخ، حتى المرحاض الذي ساهم
في بنائه الاتحاد الأوربي للحفاظ على صحة السكان هدمه الجيش، والنتيجة 16 إنسان في
العراء بلا مأوى، عشرة منهم أطفال.
وفي اليوم نفسه هدم الجيش حظيرتين ومبنى في «الجفتلك»
(قرية فلسطينية تقع على الحدود مع غور الأردن ضمن أراضي 1967) وقطع أنبوب المياه
الوحيد المؤدي للساحة الخربة، قبلها بأربعة أيام هدم الجيش بيوت حجرية وخيام في «العوجة والنعيمة».
أغسطس، الشهر الأعلى حرارة بالسنة، هو الشهر الذي هدمت
خلاله إسرائيل العدد الأكبر من البيوت، وألقى جنودها بأطفال وشيوخ في العراء تحت الشمس القاتلة فيما
هم يهربون للتكييف، دون تخطيط أو إشراف، وإنما فقط رغبة في إيذاء السكان الضعفاء
وطردهم من هناك، رغبة قوية قدر الإمكان.
على مقربة من مدخل «فصايل» رأينا بيتًا صغيرًا خاصا،
محاطًا بسور مرتفع من الطوب، فوق السور صنبوران وحوض وبجانبها نخلة طارحة ومصطبة،
أوقفنا فضولنا فأسرع نحونا ثلاثة صبيان صغار وألحوا علينا أن نتكرم ونشرب ماءً
مُثلجا (في مكان لا يغتسلون فيه خلال ساعات النهار بسبب ارتفاع حرارة الماء) وقطف
أحد الصبية تمرا وقدمه لنا.
القصة كما يلي: منذ عدة سنوات مات جد الصبية، فاعتقدوا
أن تقديم التمر والماء البارد لكل عابر سبيل بمثابة تخليد لذكراه، ومن أجل ذلك
وضعوا مُبرد ماء كهربائي على الجانب الداخلي ومنذ ذلك الحين يمر كل عطشان فيرتوي،
وبينما نحن نتحدث جاءت مجموعة من العمال الذين أنهوا العمل بإحدى المستوطنات،
فشربوا، وغسلوا وجوههم ورؤوسهم بالماء البارد، وتناولوا تمرا ثم واصلوا طريقهم.
هل هناك سبيل أفضل من هذا لتخليد ذكرى جد محبوب؟!
دفنا بناي: كاتبة التقرير عضو في منظمة "מחסוםWatch " (Checkpoint
Watch) وهي منظمة نسائية إسرائيلية مُعارضة للسيطرة الإسرائيلية على
الضفة الغربية، والاعتداء على حرية الفلسطينيين في المنطقة، ترفع شعار "لا
للحواجز".
.................................................................
وفي الإطار نفسه؛ رافقت الشاعرة الإسرائيلية «طال نيتسان»
قافلة الدعم والتضامن التي وصلت إلى «فصايل».
طال نيتسان
كتبت طال قصيدة خصيصا
لإبراهيم عنونتها باسمه، تقول فيها:
إبراهيم
"ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى
الأشجار" (سفر التكوين 21/ 15)
·
ريحٌ ساخنةٌ تلفحُ جلدَ الولد
الولد الهزيل النائم تحت الشجرة
تحت الشجرة الوحيدة
أطنابٌ مُطبَّقةٌ من الكارتونِ والصفيح
النايلون مُكرمشٌ بجانبه
يبدو كعظمةٍ مكسورةٍ ويبرزُ الأنبوب
من داخل شقٍ في شبكة
الأرنبُ الورديُ مقلوبٌ على وجهِه
والحشيةُ التي لم تُنقَذ في الوقتِ المناسب مقطوعةٌ
والأحجارُ حوله مُراقِبات صامِتات
جمالُ العالمِ يَدْمِي للخلف
مبحوح صوتُه كلبُ الحراسة
على ما لم يصبحْ موجودا
على جرحِ البيت
يتصاعدُ الغبارُ ببطءٍ
ويمحو رويدًا رويدا
جميعَ الكلماتِ بالحنجرة
جمالُ العالمِ يُدمي للخلف
مازال صدرُ الولدِ يرتفع
من تحتِ الشجرة
الوحيدة
·
في حُلمِي فتحتُ صنبورًا وإذْ برماد
في حُلمِي فتحتُ صنبورًا وإذْ برمل
في حُلمِي فتحتُ صنبورًا وإذْ بزفت
في حُلمِي فتحتُ صنبورًا وإذْ بدم
خرائب
فصايل،
غور
الأردن. أغسطس
2016
ترجمة من العبرية إلى العربية: محمد عبد الدايم هندام