منفى البيادق المنهزمة في فيينا
قراءة في "آه لو تدري بحالي" لأسامة غريب
"آه لو تدرى بحالي.. أترى كنت تبالى؟
أم تغالي؟
هل سيرضيك انشغالي
أم سيغريك اشتعالي بالتعالي
أو كما أنت ستبقى شاغلًا بالصمت بالي"
كتب كلمات الأغنية
الشاعر الغنائي عبد الوهاب محمد، ولحنها رياض السنباطي، وذهب خصيصا بها إلى فيروز
لتغنيها، إيمانا منه بأنها الوحيدة التي ستغني هذه الأغنية بإحساس لا يضاهيه أحد
في الغناء العربي، وإيمانا منه بقدرته على استخراج الطبقات المخنوقة في صوتها
ويقال أنها بالفعل سجلت الأغنية مع أغنيتين كتبهما جوزيف حرب، وكان السنباطي
القاسم المشترك، حيث لحن الأغنيات الثلاثة.
هذا
التعاون المصري اللبناني في الغناء، بين عبد الوهاب محمد والسنباطي من مصر، وفيروز
من لبنان، جعله الكاتب أسامة غريب منطلقا لروايته الأخيرة "آه لو تدري
بحالي" (الرواق للنشر والتوزيع، 2021)، التي تدور أحداثها الرئيسة في فيينا،
لكن مُحركات الأحداث وقعت في مصر ولبنان وفلسطين وسوريا والعراق والسعودية والمغرب
والبرتغال والولايات المتحدة.
عجينة
سياسية كثيفة، صبها أسامة غريب في قالب أدبي كبير، يمزج بين الغناء والكتابة، الفن
والشطرنج، السلم والحرب، لتخرج روايته "آه لو تدري بحالي" كعمل أدبي
إنساني بنكهة تأريخية لأحداث سياسية وعسكرية، شهدتها دول عربية، في فترة مرتبكة من
التاريخ "القومي" العربي، بداية من عام 1977 وانتهاء باغتيال السادات في
6 أكتوبر 1981.
البطل
الرئيس في الرواية، عادل، الشاب المصري، الطالب الجامعي الذي ينتهي حلمه بالتخرج
من كلية الإعلام، ليصبح موزع جرائد على النواصي بعاصمة النمسا، بعدما هرب من
اعتقالات السادات، ومعه مجموعات أخرى من المصريين، أغلبهم من الشباب، والبطلة
المشاركة نادية اللبنانية التي هربت هي الأخرى رفقة أمها ماجدة، من أتون الحرب
الأهلية، بعد مقتل أبيها.
تبدأ
الأحداث عام 1978، بوصول الطائرة التي تحمل الطلبة المصريين إلى مطار فيينا، لكنها
في الواقع قد بدأت قبل ذلك التاريخ، عندما عبر الجيش المصري قناة السويس لتحرير
سيناء عام 1973، وعندما بدأت المعركة الأولى بين الموارنة وبين القوات الفلسطينية
في لبنان عام 1975.
البطل
عادل، يلعب الشطرنج لأجل المال، بعدما أنهكه توزيع الجرائد على نواصي الشوارع،
وحياة المشردين على أرصفة فيينا، وعلى نجيل حدائقها، وفي الأقباء العطنة، والعمل
كفواعلي بناء في المجتمع الأوربي الجديد الذي لجأ إليه رفقة مجموعات من الشباب،
يمثلون بيادق شطرنج أسقطتها حركات عشوائية من نظام السادات الجديد بعد حرب أكتوبر.
يلجأ
عادل وبقية الشباب، من طلاب وعمال، وتلجأ نادية وأمها، ويلجأ محرز المغربي، وعاطف
جعفر العراقي، كل هؤلاء طاردتهم الأنظمة السياسية في بلادهم، واجتمعوا في النمسا،
بحثا عن ملجأ آمن، مؤقت، كانوا يأملون في العودة، إلى بلادهم، إلى أوطانهم، لكن
العسكري في لعبة الشطرنج لا يعود للعبة بعد إسقاطه من ضربة واحدة، فما بالنا
بضربات متتالية.
تضعنا
رواية أسامة غريب في قلب الأحداث في مصر والبلاد العربية والإسلامية، انتفاضة 77،
اتفاقية كامب ديفيد، اعتقالات سبتمبر 1981، واغتيال السادات، الحرب الأهلية اللبنانية،
ضرب إسرائيل للمفاعل النووي العراقي، الحرب العراقية الإيرانية، الثورة "الإسلامية"
الإيرانية وسقوط الشاه.
يعتمد
أسامة غريب أسلوب السرد المباشر، الواضح، دون تعقيد لغوي، دون أن يقف أبطال
رواياته خلف أقنعة السرد، ظهر ذلك واضحا في روايته السابقة "عازفة
الكمان" (دار الشروق، 2018)، ولا تخلو كتاباته من الإسقاط السياسي المباشر،
يعبر عن منظور الكاتب والراوي والأبطال، دون أن يعبأ بتغليف الرؤية بغلاف أدبي
فلسفي، أو يتوارى خلف أقنعة تحميه من مغبة الاعتراف، أو يتخفى وراء أسلوب أدبي
يجتذب مديح "فرق النقاد المُنظرين".
الملفت
أن الكاتب لا يروي قصص أبطاله واضعا حبكة مشدودة بحبال "التشويق" و"الدراماتيكية"
الغامضة، وإنما يترك قلمه يهرول، ينتقل من حدث إلى حدث، يربط بين الأبطال بحبكة
تقود إليها الأحداث المتسارعة في بلد كل منهم.
لا
يهتم أسامة غريب بالغموض، قدر اهتمامه بتصوير معاناة الفرد، يشخص أزمة الذات لدى
كل شخصية، الطلاب المصريين الهاربين من الاعتقالات، الموظفين الباحثين عن لقمة عيش
بعدما ضيق عليهم عصر القطط السمان، المثقفين الرافضين لسياسات "الرئيس
المؤمن"، واللبنانيين المُشردين في بلاد العالم بعدما دمرت الحرب الأهلية
بلدهم، وقتلت أهلهم، والعراقيين الهاربين من سلطوية صدام ودموية نظامه، ويجتمع
هؤلاء جميعا مكونين شكلا مناظرا لـ"جامعة عربية" في فيينا، مفككة،
ضعيفة، يبحث أفرادها عن أمان "مصطنع" في وطن "بديل".
يلعب
البطل عادل، الهارب بجواز سفر مزور، الشطرنج لأجل أن يجد شلنات تطعمه وتمكنه من
النوم على فراش، ويبحث محمد عن مهرب من مشكلاته النفسية التي هرب منها، حتى وصل
إلى حبل مشنقة صنعه بيده في محبسه بالنمسا، ويبحث آخر عن الجنس، متسترا برداء
"التدين"، ويبحث واحد عن مهرب من حكم بالسجن عقابا له على جريمة قتل، ويمارس
آخر اللواط لأجل المال، وغيره يلعب ملاكم الشوارع، وينصب أحدهم على النساء العجائز،
ويبحث الأستاذ الجامعي العراقي عن فتاة يمارس معها الجنس بورقة "زواج
المتعة"، وبين هذا وذاك، ترزح الفتاة اللبنانية وأمها تحت سطوة مجنونة لسياسي
نمساوي سابق، يميني متطرف، شاذ ومدمن.
سقطت
البيادق كلها، على رقع الشطرنج في بلادها، سقطت بحركات غير مدروسة، فقط كيلا يصل
النظام في كل بلد إلى نقطة النهاية "كش ملك"، أصبح الأبطال، رغما عنهم،
بيادق شطرنج، تتصدر الخطوط الأمامية، وتسقط تباعها، تزهق أرواحها على رقعة الوطن،
تهرب على أمل أن تصبح فيينا "ملجأ الأنس".
من
الذات إلى النحن يتحرك أبطال الرواية، في واحد من الأحداث يجتمع عادل ومحمد وعزت
كلوت وسيد الأستورجي وطه وحسنين وسامي المعفن وينضم إليهم مجدي زينهم الوصولي الذي
يعيش على أموال زوجته النمساوية العجوز المحتضرة، يتجمع البيادق الثمانية، يبرز اصطفافهم
حول قرش الحشيش، ثم سقوطهم جميعا في هذا المشهد المعبر عن انهيار اللعبة، تزامنا مع
حركات متسارعة على رقع الشطرنج في البلاد العربية والشرق الأوسط، يتحرك الأبطال
بحثا عن ملاذ في النمسا التي يبحث مواطنوها عن قومية جديدة بعد انتهاء فكرة
"ألمانيا الكبرى".
يسقط الجميع، عسكري تلو الآخر، ليبقى الملك والملكة، لأن البيادق التي تتحرك لمربع واحد لابد أن تسقط أولا، وتُلقى خارج اللعبة بضربات سريعة، لأنها كما يقول الكاتب "غلابة يا أخ عفركوش".
يتفرق
الصف الأمامي من البيادق، وقود المعارك، تبحث الأنظمة عن بيادق بديلة توقفها قبلما
تُلعب حركة "كش ملك"، فيم تغني فيروز على ألحان السنباطي، أغنية لم تخرج
للنور:
"رغم حبي وحنيني وشقائي بالتنائي
رغم وهمي وظنوني وعنائي اللانهائي
رغم علمي ويقيني أن في الوصل دوائي
لست أرضى أن تجيء مجاملا دون انفعال
ولذا كان سؤالي..آه لو تدري بحالي"
ومن يدري بأحوال البيادق المنهزمة؟!
محمد عبد الدايم هندام،
كاتب، صحفي حر، أكاديمي، مدرس الأدب العبري والدراسات الإسرائيلية، كلية الآداب،
جامعة المنصورة، مصر
https://moabdel-dayem.blogspot.com/
https://www.facebook.com/MoHendam
linkedin.com/in/mohammed-abd-el-dayem-89101051