منشور على موقع زائد 18 اضغط هنا للانتقال.
طبيبي الذي أتابع معه حالة ضغط الدم المرتفع هو الدكتور
«منير» (سأسميه هنا منير افتراضا)، وهو طبيب أمراض باطنة وقلب ينتمي إلى معسكر "مسيحي
بس كويس"، هذا المعسكر الذي يُلقى خلف أسواره مصريون يعيشون معنا وتتآلف
قلوبنا معهم، لكن للأسف "الحلو ما بيكملش"، لأنهم مسيحيون.
قبل أن أقرر الاستمرار مع الدكتور «منير» كنت أعاني أيما
معاناة من عيادات أطباء الباطنة والقلب، بسبب الزحام الشديد وطول الانتظار حتى
يحين دوري، حتى أشارت علي والدتي أن "أُجرب" الدكتور «منير» بناء على
توصية من زميلاتها في العمل، ومنهم "طنط تريزا"، والحقيقة أن الرجل لم
يخيب ظن الموصين به، قابلني الرجل عند دخولي لأول مرة إليه بابتسامة كبيرة، ونهض
واقفا ومد يده ليصافحني قائلا "أهلا وسهلا يا حمادة اتفضل"، ومن يومها
وأنا أعتبر هذا الرجل مثالا لما يجب أن يكون عليه الطبيب، بشوش الوجه، يحترم
مريضه، بل ويتفانى في الكشف عليه، لدرجة أن المريض يظل في غرفة الكشف أربعين دقيقة
كحد أدنى، يستفسر فيها الدكتور «منير» عن كل شيء يُتعب المريض، ناهيك عن إمكانية
الوصول إليه عبر هاتفه الشخصي سواء بالاتصال أو عبر تطبيق «واتس آب»، طبعا ليس هو
الطبيب الوحيد في مصر الذي يجمع بين الشطارة والذوق واحترام آداب المهنة، لكن يا
خسارة إنه طبيب كويس رغم إنه مسيحي.
عم «مدبولي» (سأسميه هنا مدبولي افتراضا) هو المسئول عن
عيادة الدكتور «منير»، وبكل ثقة أقول إنه "مسلم بس منه لله"، رجل مخادع،
يهوى الكذب على المرضى، يدعي غياب الطبيب تارة، أو عدم وجود حجز تارة أخرى، ويقسم
على ذلك بأغلظ الأيمان، مع أن الطبيب في حجرته يباشر عمله، وجدت من الرجل أنواع
الكذب كافة، وكلها حالات كذب مُرفقة بالقسم، لدرجة أنني حينما أكون في حاجة لحجز
موعد أتوجه مباشرة للدكتور «منير» عبر هاتفه، لكن المهم هنا أن عم «مدبولي» مسلم، والدكتور «منير» مسيحي بس كويس،
ربنا يهديه.
كيف نحكم على إنسانية البشر بما هو مكتوب في خانة
الديانة بالبطاقة الشخصية؟ هل الإنسانية مُرتبطة بإسلام المرء فقط؟ الإنسانية هي
جوهر الدين، كم من مسيحي نعرفه ونتعايش معه وجدنا منه خير مما وجدنا في مسلمين من
أقرب المقربين! ومع ذلك تتعالى أصوات خارجة من حناجر جهلاء تشجع على التطرف والغلو،
ولا تربط وجود أصحابها إلا بمحو وجود الآخر.
من أكثر الإجابات المقيتة على مسألة التعامل الإنساني مع
الآخر المختلف في الدين هي أنه "يتعامل هكذا باحترام بهدف جذب الآخر
لدينه"، إذا كانت هذه هي الحقيقة فأهلا بها وسهلا، وإلا فما أهمية الشعار
"الدين المعاملة"؟! فالمفترض أن الإنسان يعامل نظيره بما يود أن يعامله،
لا أن يتشارك معه في الدين بالضرورة، أو لنرفع أسلحتنا ونمحو كل هؤلاء المختلفين
معنا في الدين، ونمحو معهم الشعار المبتذل البغيض "مسيحي بس كويس".
***
في سنتي الأولى بالجامعة تعرفت على أصدقاء كُثر، وهو أمر
طبيعي، منهم صديقي «فادي»، وظللت شهورا لا أعرف أنه مسيحي إلا حينما نطق مدرس مادة
باسمه الرباعي من كشف الحضور والغياب، ومرت الأيام وشاءت الأقدار أن أتشارك مع «فادي»
في غرفة سكن واحدة، وكانت فترة من أجمل فترات السكن الجامعي، «فادي» الذي استمتعت
كثيرا بصحبته كان يفصح لي عن حبه الشديد لشهر رمضان، لأنه يتناول فيه بالتبعية ما
لذ وطاب له من الحلويات والياميش، إضافة إلى عشقه لمتابعة حلقات «بكار»، وعشنا
فترة من الزمن دون أن نضطر للخوض في نقاشات عقيمة حول دينك وديني ودين أمي وأمك،
الدين المعاملة أيها السادة.
***
دعونا لا نلتف حول الواقع، العلاقة بين المختلفين في
الدين بمصر ليست على ما يرام، علاقة متصدعة توشك على الانهيار فوق رؤوس الجميع، إن
لم تكن منهارة بالفعل، والسبب في ذلك الدولة في المقام الأول، لأنها المنوط بها أن
تضع القانون في الصدارة أولا وقبل كل شيء، القانون الذي بمقتضاه تؤسس نظام تعليمي
قائم على زرع قيم المساواة والتسامح، والتعليم المقصود هنا ليس التعليم المنهجي في
المدارس فحسب، بل كذلك التعليم في المساجد والكنائس والكتاتيب، التعليم عبر وسائل
الإعلام، وبالتوازي مع التعليم لابد من قانون حاد يكرس للعدالة الاجتماعية
والمواطنة، فلا يمكن بحال أن نركن لتوصيات وشعارات جوفاء وجلسات عرفية وابتسامات كاذبة
أمام الكاميرات، وفي الأخير نرى الشحناء والبغضاء والكراهية طافحة من النفوس تجاه
الآخر.
على الجانب الشخصي، لا تهمني مادة الشريعة الإسلامية في
الدستور التي وُضعت بهدف تمرير صفقة سياسية في عهد «السادات» في المقام الأول،
والجميع يعرف ذلك، ولا يهمني بند الديانة
في البطاقة الشخصية وجواز السفر، كل هذه شكليات تفرق ولا تجمع، تعمق الهوة ولا
ترأب الصدع، ما يعنيني في المقام الأول هو "الدين المعاملة"، فالدين
تسامح وإنسانية، الدين انتصار للمظلوم على الظالم، الدين حفاظ على النفس
الإنسانية، الدين وئام وتآلف، وليس قتلا وتهجيرا وهدما ومحوا للآخر، لن يضيرني
كمسلم أن يبني المسيحيون كنائس كما يحلو لهم، بما أننا نبني مساجد متلاصقة في
الشارع نفسه، بهدف التهرب من دفع فاتورة الكهرباء، أو ادعاء التدين والإنفاق في
سبيل الله، في حين تغرق البلاد في وحل الفقر المدقع، ويعيش ملايين منا في خرائب
وعشوائيات يأكلون من القمامة.
سنظل ندافع عن إسلامنا بشعارات خرقاء، سنقول أنه دين
سلام وتسامح، ولكننا في الحقيقة نسيء للإسلام وللإنسانية، فالواقع أننا لا نتعايش
معا – مسلمين ومسيحيين- كأبناء وطن واحد، كل منا يرفض الآخر في الحقيقة، ونبتسم
لبعضنا ابتسامات صفراء منافقة، نرفع الهلال مع الصليب في المناسبات وأمام
الكاميرات فقط، والحقيقة أننا – مسلمون ومسيحيون على السواء- كل منا يربط وجوده
باختفاء الآخر، ضاربين بالقيم الإنسانية والدينية والحضارية عرض الحائط، فهذا
"مسيحي بس كويس" وهذا "ما تتعاملش معاه لأنه أربعة ريشة".
سيقول قائل: "وهل مسموح للمسلمين ببناء المساجد كما
يحلو لهم في بلاد الغرب" والرد أن مصر ليست كالغرب، مصر التي علمت البشرية في
يوم ما، مصر التي دخلها الإسلام بالسلم ليست كالغرب، مصر المسلمة هل يخشى مسلموها
أن يتنصروا؟! إذن فليراجعوا أنفسهم ويتيقنوا من دينهم بدلا من نشر التعصب والتطرف.
الكلام نفسه موجه للمسيحيين في مصر، فكثير منهم يرتضون
التعصب دينا بدلا من مسيحيتهم.
الحقيقة أن إنسانيتنا تنهار وشعاراتنا هراء وتديننا زائف.
No comments:
Post a Comment