Monday, May 15, 2023

تهويدة لتميم... من شر الدرع والسهم

 

تهويدة لتميم

من شر الدرع والسهم

                                                                        إلى تميم داود



محمد عبد الدايم هندام، طال نيتسان

 

دخل وقف إطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة حيز التنفيذ بداية من الساعة العاشرة من مساء السبت 14 / 5، إيذانا بانتهاء عملية "درع وسهم" التي بدأها جيش إسرائيل على غزة يوم الثلاثاء 9 مايو 2023.



وفقا لما أعلنته وزارة الصحة بغزة؛ فقد استشهد 33 فلسطينيا، بينهم أطفال ونساء، وأصيب ما يزيد عن 190 آخرين بجروح مختلفة، جراء العملية التي أطلق عليها الجهاد الإسلامي "ثأر الأحرار".

نشر موقع Middle East Eye خبرًا يفيد بمقتل الطفل الفلسطيني تميم داود، 5 سنوات، جراء الهجوم الإسرائيلي على غزة، حيث ذهب إلى فراشه ليلة الاثنين في منزله بحي الرمال وسط قطاع غزة، كان الطفل ينتظر الذكرى الخامسة ليوم ميلاده الشهر المقبل، عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية مبنى سكني بجانب منزله، فاستيقظ خائفا ومرتعبا.



بكى تميم، عانى نوبة هلع، لم تفلح محاولات أمه لينا في تهدئته، استمر في البكاء حتى أصيب بضيق في التنفس، ثم عاد لنومه، ومن ثم استيقظ مرة أخرى فزِعا، نقله والده للمستشفى، لكن في الطريق قلبه توقف عن العمل.

لم يحتمل قلب الصغير هدير الرعب، لم يحتمل دوي القصف، وُلد تميم في "أكبر سجن مفتوح في العالم" ، وعندما كان يبلغ من العمر ستة أشهر فقط ، خضع لعملية قلب مفتوح في الضفة الغربية المحتلة.





 

تجاوبا مع وفاة تميم (البريء) كتبت الشاعرة الإسرائيلية طال نيتسان قصيدة للطفل الذي عاش حياته القصيرة جدا في أكبر سجن بالعالم، ومات مرتعبا، توقف قلبه عن الخفقان بسبب عملية درع وسهم، تقول طال نيتسان في قصيدتها:

النجم الأخير

(تهويدة تميم)

 

إنها ليلة مرصعة بالنجوم

تتساقط نجوم ونجوم

على نومك المرتعش

على قلبك الصغير.

 

والليل حالك السواد مثل محيط

ولا ضوء صباح في نهايته

ولا أماني

ولا إنسان.

 

طفل يتنفس، يتردد، يختفي

من تستطيع البكاء

بيدها الآثمة

بقلب متحجر

 

عيناك في الصورة لم تعرف

أن النجم الأخير

لن يكون نجمًا

بل سيبتلع قلبك الصغير.

 


 

طال نيتسان رفقة الشاعرة ريكي كوهين والشاعر جيء بيرل في مظاهرة ضد السياسات الإجرامية للحكومة الإسرائيلية ضد
الشاعرة طال نيتسان تتوسط الشاعر جيء بيرل والشاعرة ريكي كوهين، في مظاهرة ضد العدوان الإسرائيلي على غزة.

تحرير، وترجمة عن العبرية والإنجليزية: محمد عبد الدايم

محمد عبد الدايم هندام، كاتب، صحفي حر، أكاديمي، مدرس الأدب العبري الحديث والدراسات الإسرائيلية، كلية الآداب، جامعة المنصورة، مصر

https://moabdel-dayem.blogspot.com/

https://www.facebook.com/MoHendam

https://twitter.com/MoHendam

linkedin.com/in/mohammed-abd-el-dayem-89101051

Sunday, May 14, 2023

كلب المعمل سيرة طبيب وسيرة كلب

 

كلب المعمل

سيرة طبيب وسيرة كلب

 

إبراهيم البجلاتي، كلب المعمل، رواية، مركز المحروسة للنشر، القاهرة 2022.

"تأخذه الرقة بعيدا

يكتب تاريخا مرضيا لنفسه

يوقف الزمن

منذ ثلاثين عاما

أو قبل ثلاثين عاما

ليس مجازا

بل حدث بالفعل ومنذ ثلاثين سنة بالكمال أحب:

جرس الإنذار بأجهزة التنفس الصناعي

رشاقة المعدن

لهفة الأصابع في الدماء

الذاهبين إلى الألم

العائدين إلى الحياة

سطوة الأبيض الملائكي

عزلة الإله في غرفة العمليات

رهافة الأزرق

دفقة البول في الأكياس

بهجة الأسرة حين ينخفض الأنين

النداء الآلي

مطلوب في الطوارئ الآن

الآن

كأن الوقت لا يفنى

..."

إبراهيم البجلاتي، أنا في عزلته، شعر، دار بدائل للنشر والتوزيع، ص 6- 7

 

 


حيوانات البجلاتي

في ديوانه الشعري "حكاية مطولة عن تمساح نائم" (دار ميريت، 2016) طاف إبراهيم البجلاتي بقرائه عالم الحيوان، عملت الذات الشاعرة في قصيدة نثر طويلة، بطول الكتاب، على أنسنة كائنات حية، ما بين الحشرات والحيوانات، من فصائل مختلفة وأحجام، الحقيقي منها والأسطوري، البري والبحري، المستأنس الداجن والأليف والمتوحش، تحدث البجلاتي عن التمساح، بطل ديوانه، وابن آوي، والسلحفاة والفأر والقط والبقر الوحشي والحمار الوحشي والثور والجاموس والغزال والقط البري والنعجة والخفاش والجمل والزرافة والحصان والقرد والسمندر، النعامة والطاووس والبطة والعصفور والهدهد، العقرب واليعسوب، الأخطبوط والضفدع والسلطعون والحلزون والحوت، حتى الديناصور النباتي والعنقاء والتنين، وغيرها من الكائنات الحية،

ظهر عالم الحيوان في الفضاء الشعر لإبراهيم البجلاتي، في ديوان التمساح، وقبله في "أنا في عزلته (دار بدائل، 2014)، وبعده في "ماذا يفعل الرومانسيون غير ذلك" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2018)، و"شاي وبرتقال وأجنحة خضراء" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2020).

تتشكل الرؤية الشعرية لإبراهيم البجلاتي من علاقة وشيجة بين الروح والجسد، بين الإنسان والكائنات الأخرى بالعالم، في إطار من التماهي بين العاقل وغير العاقل، بين الآدمي والحيواني، بين المستأنس والهمجي المتوحش، ولكن ما يميز لغته الشعرية بشكل عام هو الصفاء، الشفافية اللغوية التي تحيل المتلقي إلى عالم بسيط على تعقيداته، عالم رائق على عكارته، عالم غني بالإيحاءات الشعرية التي تعمل في الأساس على تأطير صورة الأنا البشرية والآخر، كل ما عدا الذات الشاعرة هو آخر، إنسان أو حيوان أو نبات أو هيكل أسطوري موروث.

في روايته الأخيرة "كلب المعمل" (المحروسة، 2022) يُصدر البجلاتي حيوانًا آخر ليصبح بطل عمله، أو أبطال عمله، حيث تقوم الرواية على سرد أحداث تجري بين الراوي وبين كلاب مختلفة أنواعها وألوانها وصفاتها، في رواية تبدو سيرة ذاتية لطبيب المسالك البولية، وسيرة ذاتية لكلاب شتى.

في روايته البكر "سندروم" (دار الدار، 2009) يستهل الكاتب الطبيب إبراهيم البجلاتي الحكي عن سيرته الذاتية، سيرة الذي وُلد بالمنصورة، وتخرج من جامعتها طبيبا للمسالك البولية، وليس هو أول روائي طبيب يتخرج من طب المنصورة، وليس أول كاتب طبيب يكتب إرهاصات من سيرته الطبية في إطار روائي، لكن البجلاتي يتحرك روائيا بين المستشفيات الجامعية والعامة والخاصة والمراكز الطبية المتخصصة، ويصطحب معه في رحلته كلابًا ضمن أبطال روايته الجديدة، بل وصدّر الكلب كبطل رئيس للعمل، في عتبة العنوان، ينافس الراوي على موقع الصدارة في الرواية الطويلة (428 صفحة)، ومع ذلك فقد استغرقت الأحداث حيزا زمنيا قصيرًا إلى حد ما، لكن الاسترجاع الزمني بسيرة الطبيب البطل وكلابه قد أوغل في القدم.

تدور أحداث الرواية، وفقا للتصدير الدعائي للعمل، عن "طبيبٍ شابٍ، يَبتكر عمليةً جراحيةً جديدةً، وبحكم القواعد العلمية يتوجب عليه أن يُجرب الطريقة الجديدة في الكلاب؛ للتأكد من النتائج وقابلية التنفيذ في البشر. يعاني الطبيب الشاب من خوف مرضي من الكلاب، فكيف يتغلب على خوفه؟ بل ويُعيد اكتشاف الكلب، أقدم صديق للإنسان، وأكثرِ الحيوانات المدجَّنة وفاءً لصاحبها، وفي الوقت نفسه يُعيد اكتشاف نفسه، ويكشف عن الخلل الجوهري في منظومة الطب والبحث العلمي، دون أن ينسى أن يكتب مقالًا عن: الحُزن التَّشريحي لعُيون الكلاب". لكن الرواية في الواقع لا تنشغل كثيرا بالطريقة الجديدة في علاج حالة عويصة من حالات المسالك البولية، بقدر ما تشتغل في تشريح "طبي" و"روائي" لمشاعر إنسانية هجينة، بين الخوف والشجاعة، الجرأة والتراجع، الحزن والفرح، الإقدام والتقهقر، الطموح والانهزام، الجنوح والعقلانية، الألفة والتوحش، وغير ذلك من المشاعر التي وجدها الراوي وشعر بها كإنسان، ورصدها عن قرب مع معايشته للكلاب التي يجري عليها تجارب علمية طبية، يستهدف منها الطريق المثلي لكي يدر الإنسان بوله بشكل طبيعي.

ينشغل الراوي بالتفكير في مسألة تكيف الكلب مع الإنسان، يرجع البطل إلى أمهات الكتب، في محاولة لفهم تاريخ العلاقة بين الطرفين، يرجع لمؤلف الدميري "كتاب حياة الحيوان الكبرى"، لكنه يتوه في مقدمة المؤلف ومنهجه في التصنيف، وخلطه بين العلمي الدقيق وبين الشعبي العبثي، ينفر منه ويستعين بـ "كتاب الحيوان" للجاحظ، ويسرد عبره مسيرة الكلب، من بدايات علاقته بالجنس البشري حتى الآن.

ولأنه طبيب مثقف، يعج فكره بالتساؤلات، وتصطدم مسيرته الحياتية والعملية بكلاب شتى، في الشوارع والبيوت ومراكز الكلى؛ فإن الراوي يستعين بكتاب كونراد لورنتس، عن عالم الحيوان، (ترجمه الكاتب عن الفرنسية ونشره مركز المحروسة بعنوان "والتقى الإنسان بالكلب) وهو الكتاب الذي يتحدث فيه العالم المتخصص عن سلوك الحيوانات المستأنسة والطيور والأسماك، ويؤرخ للكلب كأول حيوان مستأنس، ويتناول تاريخه الطويل من التحول والتطور، من الجر والحمل والنقل والمشاركة بالصيد، وصولا إلى الصداقة العميقة مع الإنسان، وهي علاقة "محبة" خالصة، غير مشروطة، دون تخطيط مسبق، دون مقابل، محبة مجانية، لا تخضع لنظرية "رد الفعل المنعكس الشرطي" للطبيب الروسي إيفان بافلوف.

يحمل البطل خوفا مكتوما من الكلاب، خوفا منها يتحول مع الأحداث إلى خوف عليها، إلى ترابط إنساني حيواني، ينتهي عندما يرى البطل الحزن في عيني كلبه الأخير الذي مات جراء التجربة المعملية على مسالكه البولية، ويجر خلفه إلى العالم الآخر مجموعة أخرى من الكلاب، بموتها يموت أمل مهزوز لدى البطل، تموت كلاب المعمل، فتفشل تجربة البطل، لكنه يكتشف أن فشله "ليس سيئا تماما بل يمكن أن يكون حلا من الحلول"، لأن موت الكلب واحد لا ينهي على بقية الكلاب:

نجحت تجاربنا

والكلب يا أستاذنا العزيز مات

لكن سيظل في الدنيا كلاب 

حتى القيامة والحساب (ص 20، ومواضع أخرى)

كل كلاب الباشا

تعمل الرواية على تعرية قطاع كبير من المنظومة الصحية العملية، تنهض على تشريح العلاقة بين أفراد القطاع الطبي، بنوعيهم، الجامعي وغير الجامعي، لتظهر النظرة الدونية التي ينظر بها الأطباء من أساتذة الجامعات إلى نظرائهم ممن لم يعملوا كهيئة تدريس أكاديمية، كما يشرح الكاتب هوس بعض الأطباء باللقب العلمي، من أجل إضافة حرف الدال إلى أسمائهم لتزين اللافتة الدعائية، ويستقطبون بها "الزبائن"، ويدحرون بها طموح غيرهم، كيلا يسحبون الزبون من عياداتهم الخاصة.

لكن الشخصية الأبرز التي اشتغلت كبطل رئيس، يخطط وينفذ، يُعلي ويُنزل، يتحكم بمصير الراوي، ويحكم عليه، هي شخصية "الباشا"، مدير المركز الطبي الجامعي المتخصص في أمراض الكلى، وهذه الشخصية الروائية إسقاط على شخصية حقيقة في العالم الواقعي، معروفة بأنها تمثل "الديكتاتور العادل"، المدير الصارم، الذي يسيطر على مركزه، وأطبائه، ومرضاه، وتجاربه، مثلما يسيطر "أبو شنب" (البيطري مسئول الكلاب بالمركز) على الكلاب، يسحبها، يربطها، يلجمها، يضربها، يربت عليها، يكلمها، ويطعمها، ويشهد موتها أو ينفذ القتل الرحيم.

تظهر سلطوية الباشا في التفرقة بين أطباء المركز من الأكاديميين الجامعيين، ونظرائهم الذين لم يتمرغوا في "ميري" الجامعة، وهي سلطوية منفرة، برائحة نفاذة، تكاد تخنق روح الطبيب أكثر من رائحة أمعاء الكلب المُشرح على طاولة التجربة المعملية، يتعامل "الباشا" مع البطل بأبوية أكل عليها الدهر وشرب، الأب "العام" الذي "يلعن جدوده أمام الجميع"، ويضع يده على كتف البطل بعفوية.

مسالك الطب ومسيرة الكلاب

ربما يفصح الكاتب/ الراوي للمرة الأولى عن الزمن الروائي بعد مرور ردح من الأحداث التي عاصر فيها كلابا وبشرا، من أطياف مختلفة، وطاف بالمتلقي شوارع المنصورة وحاراتها التي لم يعد بعضها على حاله مثلما كان في تسعينيات القرن الماضي.

تحفل الرواية بتجارب طبية متخصصة في المسالك البولية، يسير الكاتب / الراوي على مهل ليشرح المصطلحات الطبية والتقنيات العلمية بلغة مبسطة لا يستهدف منها تعقيد الفكرة على المتلقي، بقدر ما يستهدف محاولة فك التعقيد الذاتي المُلغز الذي يكتنف مسيرة البطل، ويقطع أمعاء كلابه، ويلقي بهم على طاولة المعمل، قبيل انتهاء دورهم كـ "كلاب معمل" يختبر الطبيب فاعلية الصمام الذي يُركبه لتحويلة المسالك البولية للكلب، وفي الوقت نفسه يفضح فاعلية المنظومة الطبية في المستشفيات المصرية، بأنواعها، بالمنصورة، والقاهرة، وبورسعيد، هذه المنظومة متنوعة الألوان والأحجام، مثلها مثل كلاب المعمل التي تُقتل لأجل البحث العلمي، يتناول الكاتب مسائل عديدة كسرقة الرسائل العلمية، واهتراء المستشفيات، وتحول مهنة الطب إلى "سبوبة"، وغيرها من مشكلات الطب والبحث العلمي في مصر.

في سرده لمسيرة الطبيب وكلابه يبدو إبراهيم البجلاتي حريصا في لغته على تبسيط مشاهد الرحلة للمتلقي، يخرج كثيرا من غرفة العمليات، ينفث الثقل العلمي مع دخان سجائره، لأن العمل في الأخير ليس لغاية علمية متخصصة، بقدر ما يحمل تفاصيل رحلة طويلة، إنسانية فردانية وجمعية، وحيوانية كذلك، رحلة الإنسان والكلب، منذ بدايات ارتباطهما حتى الآن، تقطعها وقفات قصيرة للبطل الطبيب الذي يشرب الشاي دائما، ولا يشرب القهوة، في المعمل، في المخبأ الذي يختلي فيه الأطباء للتدخين، في شوارع المنصورة، في حجرة الطبيب المنتحر، أو على كرسيه الأثير بحجرته، وغير ذلك من الأماكن التي يتحرك فيها البطل بسرعة شديدة، تناسب حركة طبيب شاب يبحث عن حلم غامض، يبحث عن نجاح عملي، وإجابات على أسئلة إنسانية.

انفتحت الرواية على نهاية مفتوحة، فشلت تجربة الطبيب، أو فشلت خطوة من خطواتها، لكن هذه المسيرة الطويلة كشفت له "الحزن التشريحي لعيون الكلاب... التي تخفي تركيبا هشا وكائنا تابعا لا يعاني من عقدة أوديب"، هذا التماهي بين حالات الكلب، وسماته، وخصاله، وصيرورة مسيرته هي الشغل الشاغل للكاتب الذي دشن عملا روائيا مقارنا بين الإنسان والكلب، إلى درجة أن يتعلق مصير الإنسان بمصير كلب.

بعد مسيرة طويلة، اكتشف البطل أن بإمكانه أن يحلم، وهذا ما اعتبره نجاحا يعوضه عن "الفشل" الوقتي للتجربة، يتوقف عند مفرق مزلقان القطار، لينفتح المفرق على مسالك مختلفة، مسلك استكمال الكفاح للحصول على الدكتوراة، ومسلك الخنوع لسطوة "الباشا"، ومسلك البحث عن المال، في مصر أو الخليج، ومسلك السعي للترقي الوظيفي بالعمل في منطقة نائية، ومسلك ترك المعمل وكلابه والسفر للخارج، وبين هذه المفارق يقف الراوي/ الطبيب / البطل يفكر فيما يفعل بـ "نبتته الوهمية". وكذلك تبدو مسيرة الكلب، من بدايات لقائه بالإنسان، حتى وصوله جثته إلى المعمل، مسيرة تتراوح بين الصعود والهبوط، الانهزام والنصر، بين كونه صيادًا وبين كونه فريسة محل تجارب علمية، وهنا يبدو التماهي بين مشهد الكلب المصلوب على طاولة المعمل، ومشهد المسيح على الصليب، فالتناص هنا يحيل الكلب إلى صورة إنسانية بشرية، صورة إنسان يتعذب من أجل صالح البشرية. 

لا يفوت الراوي أن يعرج كثيرا على دروب الواقع الاقتصادي والاجتماعي العام بمصر بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي، وانزواء اليسار، في مقابل صعود نهم لرأس المال، الذي أحال الإنسان إلى عملة، والطب إلى بيزنس، والمريض إلى زبون، والدكتوراة إلى صمام مسالك بولية.

على طول الرواية يبحث الطبيب عن مسار سلس لمجرى البول، ومسالك آمنة لتجارب فردانية، تأخذه الرقة، فيكتب تاريخا مرضيا لنفسه، يوقف الزمن، يتطلع إلى رشاقة المعدن، ولهفة أصابعه في الدماء، والكلاب الذاهبة إلى الألم، والعائدة إلى الحياة، وعزلة المُجرب في غرفة العمليات، برهافة الأزرق، ودفقات البول في الأكياس، وبهجة أسرة المرضى حين ينتهي الأنين، وصوت النداء الآلي، مطلوب في الطوارئ الآن، الآن، في كل وقت، حتى تزهق روحه، أو تموت الكلاب، أيهما أقرب.



 

محمد عبد الدايم هندام، كاتب، صحفي حر، أكاديمي، مدرس اللغة العبرية الحديثة وآدابها، كلية الآداب، جامعة المنصورة، مصر

https://moabdel-dayem.blogspot.com/

https://www.facebook.com/MoHendam

https://twitter.com/MoHendam

linkedin.com/in/mohammed-abd-el-dayem-89101051

 

 

 

 

Thursday, February 09, 2023

الأبوة المرتبكة مع لولو والوجود المتلاشي في العالم

 قراءة في المجموعة القصصية "تمشية قصيرة مع لولو" للكاتب محمد خير


المجموعة صادرة عن دار الكتب خان للنشر والتوزيع، 2023

محمد عبد الدايم هندام



 

ثماني عشرة قصة قصيرة احتوتها المجموعة القصصية الأخيرة للقاص محمد خير، منها خمسة قصص تطل فيها كل من شخصية الأب مع ابنه أو ابنته، "مفقود" و"مزحة" و"رسائل" و"قاموس" و"تمشية قصيرة مع لولو"، وفي هذه القصص الخمسة تغيب شخصية الأم، غيابًا اضطراريا بموتها، أو اعتباريًا، بوجودها في خلفية الأحداث لكن دون تموضع في بؤرة القصة.

يقول جان جاك روسو في كتابه "إميل أو التربية" إن: "المعلم الحقيقي هو الأب، وأفضل تنشئة على يد أب عاقل محدود مما على يد أمهر معلمي العالم"، ولكن الأب البطل في قصص محمد خير لا يدعي أنه حقيقي، لا يُلزم المتلقي بالاعتراف بأنه عاقل، كما لا يأتي مجنونًا، وإنما هو ببساطة أب مرتبك، يبدو وكأنه فوجئ بتصديره إلى رأس المنظومة المنزلية، بموت الأم، أو غيابها، أو وجودها المتواري عن الأحداث السريعة في القصص.

في القصة الأولى "مفقود"، يستقي خير من جملة الأمهات للأطفال "العصفورة قالت لي" قصة عن فقد الزوجة/ الأم، وما يعانيه الزوج/ الأب بعد رحيلها، سواء على الجانب الشخصي له، أو على مستوى تربية الطفل وحمايته، وبدا الأب هو المفقود، وليس الطفل الذي ظل يتتبع خط سير العصفور الذي يراقبه ويبلغ أمه بتحركاته وأفعاله.

في قصة "مزحة" أيضًا غيّب الموت شخصية الأم، وظهرت شخصية الابنة التي تواجه عالم المراهقة للمرة الأولى وحدها، دون معين لها، فالأب منغمس في ليالي السهر مع رفاقه، والأم في السماء، والطفلة تفتح عيونها على "عالم الرجال السري"، بينما لا تزال جاهلة بدلالة الدم اللزج الذي يخرج منها.

أما في قصة "رسائل" فإن الأب هو الغائب الحاضر، غائب بموته، حاضر بروحه وإرشاده للابن، الذي أصبح كبيرا عاقلا راشدا، لكنه في الوقت نفسه يتلمس صوت أبيه بين أصوات الرفاق والأصدقاء، وفي قصة "قاموس" يستعرض خير صورة واضحة من ارتباك الأبوة في التعامل في القاموس اللغوي الخاص بالأطفال، ويبدو الأب هنا أكثر ثقة والتزامًا بخطه "التعليمي" ليكون أبًا ملائمًا في موضعه، أما صديق الأب فيشعر بالارتباك والجهل اللذين يؤديا للخوف من خوض التجربة، والخوف من الفقد.

القصة التي وضعها خير كعنوان للمجموعة "تمشية قصيرة مع لولو" يتبدى فيها القدر الأكبر من الارتباك الأبوي، فلولو خائفة حائرة، والأب ليس ارتباكه بدرجة أقل، لا يستطيع أن يزيح خوف لولو من القطة، لأنه هو نفسه قد فوجئ بها مثلما فوجئ بصديق قديم، وليس ثمة ما يخيف في لقاء عابر بصديق، ولكن البطل على طول الخط مرتبك، يتحرك في الظل، يبحث عمن يحتويه، يعاني الفقد، ويعاني الاهتداء.

يعمل محمد خير بجهد في مجموعته على البحث عن مسار آمن للحياة الاجتماعية، داخل المنزل وخارجه، لكن أبطاله يرزحون تحت طاقة ارتباك وجودية، فبطل قصة "متبرعة" ينسل هاربًا من الفتاة التي أُعجِب بها، وبطل قصة "انتباه" اتضح أنه غير منتبه لارتباكه، خصوصا حين يكتشف أن صورته النمطية في عيون المحيطين به ليست كما اعتقد، وفي "بقعة عمياء" لا يكاد يجد نفسه بين الوجوه المألوفة وغير المألوفة، في العالمين الواقعي والافتراضي، ربما يبدو الأبطال في "ضوء العيون" و"طواف" قادرين على أن يشعروا بوجودهم في العالم، رغم العمى والشلل.

في "إصلاح الماضي" يسعى البطلان لتكذيب الأحداث، وخلق ذكريات جديدة، يصنعان من مواقف الحياة اليومية آلة للزمن، ربما يسلكان عبرها مدارك مختلفة لتغيير الواقع، لكن الواقع مربوط بالذكرى، والحاضر هائم في شوارع المدينة، يبحث عن موطئ قدم، لا تخطئها الحوادث المفاجئة، مثلما جاء في "طواف" و"دموع واسعة".

يبحث خير مع أبطال قصصه عن معنى للحياة، ومرادف للموت، ويستند إلى إرهاصات الوجود المتلاشي، مثلما في قصص "تذكار" و"المرة الثانية" و"الساعة"، ويستخدم عامل الوقت لتدشين استراتيجيات مناوئة للتلاشي والفقد والرحيل.

لا يُلزم خير نفسه وأبطاله بتحديات كبيرة يهزمون بها الغياب، لأنهم أعلنوا من البداية وقوعهم في ارتباك وجودي، يتصاعد برتابة حتى ينزل السلالم، ويختفي عوده النحيل مع اختفاء بطلة قصته الأخيرة، واستعاض الكاتب عن المساعي المرتبكة باستعارات جمالية، بسيطة في لغتها، عميقة في معانيها، تبرز المعاناة الإنسانية في الوجود اليومي العابر، في المنزل والعمل والطريق والشارع، في ليالي السهر، وأمام المقابر، في أيام الأعياد، ورحلات البحث عن ظلال الأصدقاء والراحلين.

 

محمد عبد الدايم هندام، قاص، صحفي حر، أكاديمي، مدرس الأدب العبري الحديث والدراسات الإسرائيلية، كلية الآداب، جامعة المنصورة، مصر

https://moabdel-dayem.blogspot.com/

https://www.facebook.com/MoHendam

https://twitter.com/MoHendam

linkedin.com/in/mohammed-abd-el-dayem-89101051


Sunday, October 18, 2020

الذكاء الاصطناعي في خدمة الأمن الإسرائيلي

تقرير: محمد عبد الدايم 

نشر معهد دراسات الأمن القومي بحثًا جديدا بعنوان "الذكاء الاصطناعي والأمن القومي في إسرائيل" من إعداد الدكتورة ليران عنتيبي، الباحثة بالمعهد، والمُحاضرة بجامعة بن جوريون، وكذلك تعمل في أكاديمية الطيران التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، وهي متخصصة في بحوث الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الطائرات بدون طيار والروبوتات، والتكنولوجيا العسكرية، كما أنها حاصلة على درجات علمية في العلوم السياسية والديبلوماسية والأمن.

يقع بحث عنتيبي في 136 صفحة، وتقدم فيه تحليلا موسعا لاستراتيجيات الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الاتصالات الحديثة، وتركز على تطوير إسرائيل للتكنولوجيا لتدعيم أهدافها العسكرية والمدنية على السواء، مما جعلها واحدة من الدول الرائدة على مستوى العالم.

فإسرائيل تمتعت مؤخرا بموطئ قدم كبير في حقل الذكاء الاصطناعي، بفضل التوسع في الشركات التكنولوجية الناشئة، ناهيك عن استقطابها لاستثمارات خارجية كبيرة تدشن مشاريع تقنية مكّنت إسرائيل من الوصول لمكانة متقدمة في هذا الشأن.

يكتسب الذكاء الاصطناعي أرضية واسعة تحديدا في مجال الأمن الإسرائيلي والصناعات العسكرية، وبات يمثل موردًا رئيسا للأفكار الحديثة والتقنيات التي تدفع الصناعات العسكرية لتدشين منتجات تعطي الجيش الإسرائيلي والمؤسسات الأمنية الأخرى أفضلية كبيرة في مواجهة التحديات المختلفة، إضافة إلى الاستفادة المعززة من تصدير المعدات العسكرية المعتمدة على تقنيات الذكاء الاصطناعي.

القوة التكنولوجية في إسرائيل

أصبحت إسرائيل قوة تكنولوجية ذات حيثية في الشرق الأوسط، لأنها دشنت واحتضنت كثير من الشركات الناشئة أو المبتدئة، المعروفة باسم شركات "ستارت أب" (startup companies)، وفي السنوات الأخيرة ارتفع عدد هذه الشركات بشكل كبير مقارنة بنسبة ارتفاع السكان.

عملت مؤسسات أكاديمية أولا في تطوير تقنيات الاتصالات والإنترنت والذكاء الاصطناعي، ثم سلمت التقنيات إلى هيئات الجيش والمنظومات الأمنية، وهذه الهيئات نفسها تترك بصمتها العسكرية على التقنيات الحديثة، لتحولها إلى معدات تكنولوجية عسكرية تتلقفها مجددا مؤسسات صناعية وشركات إنتاج، فيصير الناتج من المعدات المبتكرة، والتقنيات العسكرية الحديثة توفي حاجات متطلبة للجيش، وتمنح إسرائيل أفضلية كبيرة في سوق تجارة السلاح والمعدات العسكرية.

هذه الدائرة البيئية الصناعية تمثلها إذًا مؤسسات بحثية وأكاديمية وهيئات أمنية وصناعية، وتعمل كلها في تعاون متصل، حيث تخرج الأفكار من المؤسسات البحثية فتمولها الهيئات الأمنية والعسكرية برأس المال، ممثلا في الميزانيات ورؤوس الأموال البشرية، وكذلك البنى التحتية، من أجل تطوير أنظمة برمجة وذكاء اصطناعي تُوجه لصالح الجيش والهيئات الأمنية التي تنقلها للشركات الصناعية لتنفيذها، ثم يستفيد منها الجيش وغيره من كيانات الأمن الإسرائيلي مرة أخرى.

قادت شركات البرمجيات وتقنيات الاتصال التي نشأت في سنوات الثمانينيات والتسعينيات إسرائيل لتتبوأ موقعًا رائدًا في هذا المجال، ومن هذه الشركات:

-          أمادوكس (Amdocs) تأسست عام 1982، وهي حاليا شركة أمريكية، كانت إسرائيلية في الأساس، وتخصصت في تطوير أنظمة البرمجيات المتعلقة بالفوترة وأنظمة علاقات العملاء، وحاليا تقع مقرات هذه الشركة العملاقة في سانت لويس بالولايات المتحدة، وما زالت مكاتب الإدارة في مدينة رعنانا الإسرائيلية، المعروفة بأنها "متنزه" شركات التكنولوجيا والهاي تيك، وتجذب كبريات الشركات العالمية لإقامة مقرات بها.

-          نايس (NICE Ltd) تأسست عام 1986، ومقرها في رعنانا، إلى جانب مقر آخر في نيوجيرسي الأمريكية، وهي إحدى أكبر الشركات المتخصصة في تطوير أنظمة الحوسبة السحابية، وأنظمة تحليل البيانات، وخدمة العملاء ومنع الاحتيال، وتقدم خدمات لعملاء في نحو 150 دولة على مستوى العالم.

-          تشيك بوينت (Check Point Software Technologies Ltd)، وهي شركة تقنيات برمجة نشأت في 1993، وأسسها الأكاديمي المعروف في مجال الهاي تيك وأمن المعلومات شلومو كرامر، وأصبحت تشيك بوينت واحدة من أضخم الشركات الإسرائيلية، حتى أنها صُنفت بالمركز الرابع على مستوى إسرائيل عام 2015 وفقا لمجلة فوربس، ولها مقران، أحدهما في تل أبيب والثاني في كاليفورنيا، وسبق أن أبرمت اتفاقية تعاون مع مجموعة بي تي (بريتش تليكوم) البريطانية المعروفة في مجال الاتصالات، من أجل أن تطور تشيك بوينت قدرات أمنية إضافية للشركة البريطانية العملاقة، ومن بين هذه القدرات تطوير جدران الحماية في التطبيقات، مما يزيد من تأمين بيانات العملاء.

مثل هذه الشركات التي أصبحت قوى عالمية منافسة في مجالات التكنولوجيا والبرمجيات، إضافة إلى تداول أسهمها في أسواق مالية إسرائيلية وعالمية، رسخت مكانة إسرائيل كقوة راسخة في حقل الاتصالات والأمن المعلوماتي وتخزين البيانات، كما شجعت إسرائيل ثقافة ريادة الأعمال، والتي أدت إلى ظهور شركات ناشئة تهتم بالابتكار، وساهمت هذه الشركات بشكل مباشر في تكوين نظام أعمال بيئي تكنولوجي ناجح يعوض النقص الإسرائيلي في الموارد الطبيعية والبشرية، ويمنح إسرائيل تفوقا كبيرا على نظرائها في إقليم الشرق الأوسط.

خلال السنوات الأخيرة حدث تطور كبير على مستوى مراكز الأبحاث التي تقدم أفكارا ودعما تقنيا للصناعات الرائدة وشركات التكنولوجيا العملاقة التي أصبحت تعمل جنبًا إلى جنب مع الشركات الناشئة التي تركز على الابتكار، ففي الأعوام 2014- 2018 ظهرت زيادة كبيرة بنسبة 120% في عدد الشركات العاملة في هذه المجالات، حيث ارتفع عددها من 512 إلى 1150 شركة تعمل أغلبها في تطوير التكنولوجيا الأساسية للذكاء الاصطناعي والتقنيات الآلية، مثل المركبات ذاتية القيادة  كالطائرات بدون طيار وكاشطات الألغام والروبوتات وأجهزة الاستشعار عن بعد ومنظومة الأمن السيبراني.

هذا النمو المتسارع دفع شركة التحليل العملاقة جارطنر (Gartner)  المتخصصة في البحث والاستشارات في مجالات تكنولوجيا المعلومات، والتي أسسها الإسرائيلي الأمريكي جدعون جارطنر ، دفعها في 2017 إلى تصنيف إسرائيل كدولة "رائدة"، حتى إنها سبقت دولا مثل بريطانيا والصين، وفي 2018 حققت إسرائيل رقما كبيرا في نسبة تمويل الشركات العاملة في مجالات تكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي، حيث بلغ تمويل هذه السوق 25 مليار دولار.

الجيش الإسرائيلي في بداية خط الإنتاج ونهايته

هذه البيئة الحاضنة للتكنولوجيا المتطورة ساعدت في زيادة صادرات إسرائيل من الأسلحة العصرية التي تعمل بتقنيات حديثة وتعتمد على تقليل العنصر البشري في القوات العسكرية، وهذه الميزة التنافسية للصناعات العسكرية ترجع للعلاقة الوثيقة بينها وبين الجيش الإسرائيلي، لاعتماد شركات التقنية والمصانع على الهيئات الأمنية التابعة للجيش في تسريع عمليات البحث والتطوير فالتنفيذ، ومن ثم تعزيز المبيعات في نطاق دولي يتسع يوما بعد يوم.

من المهم الإشارة إلى أن نظام التجنيد الإجباري بالجيش الإسرائيلي، وإقبال المجندين في السنوات الأخيرة على وحدات التكنولوجيا والاتصالات بأسلحة الجيش قد ساعد في تحريك عمليات التحديث المستمر لمنظومة ابتكار المنتجات العسكرية والأسلحة الحديثة، حيث ينخرط المجندون في وحدات البحث والابتكار بالجيش، وبعد تسريحهم يصبحون مؤهلين للعمل في الشركات الناشئة التي تنشط في مجالات التكنولوجيا والاتصالات، مما يمنحهم خبرات أكثر، وأفضلية عن قرنائهم الذين لم ينخرطوا في الوحدات التكنولوجية.

الأجهزة الأمنية الإسرائيلية هي المستفيد الأكبر من هذا التطور الكبير، خصوصا أجهزة الاستخبارات، الموساد وشعبة الاستخبارات العسكرية، حيث أصبحت تمتلك تقنيات حديثة تعطي أرجحية كبيرة لهذه الأجهزة في جمع المعلومات وتحليل البيانات واستخلاص النتائج، مما يساعد في إنجاح الأنشطة العملياتية، مع أقل قدر من الخسائر البشرية، أو انعدامها في عمليات كثيرة.

النطاق الجغرافي الضيق دافع للنمو

بالعودة إلى رعنانا، مركز شركات الهاي تيك والصناعات التكنولوجية،  تجب الإشارة إلى أن وقوع المؤسسات البحثية وشركات التكنولوجيا والمراكز الأمنية في نطاق جغرافي ضيق يعزز التعاون بين الأطراف كافة، فالأمر ليس منوطًا فقط بالتقدم في وسائل الاتصال التي تربط هذه الأطراف بشكل سريع وفعال، وإنما يستلزم التقارب الجغرافي، بما أن كثيرا من التجارب التقنية تعتمد على بنى تحتية تتبع الهيئات الأمنية بشكل كبير، وكذلك يساعد اقتراب المكاتب الحكومية ومقرات الوزارات المختلفة في تسريع الموافقات على الابتكار والتجارب الحية، وفي هذا الوضع تبدو إسرائيل حاضنة لهذا المجال بشكل أفضل حتى من الولايات المتحدة ، فوادي السيليكون الذي يمثل مركز تطوير التكنولوجيا ويحتضن كبريات الشركات الأمريكية العالمية يقع في جنوب خليج سان فرانسيسكو ويبعد مسافة تقترب من 5 آلام كم عن واشنطن العاصمة.

من الابتكار إلى التفوق العسكري والتصدير

هذه البيئة ساعدت إسرائيل على تطوير منتجات تخدم الجيش بشكل خاص، ففي السبعينيات مثلا كان استخدام الطائرات بدون طيار مقتصرا على أغراض التصوير، ولم يحقق الاعتماد عليها في حرب أكتوبر 1973 تفوقا للجيش الإسرائيلي، حيث كانت إمدادًا من سلاح الجو الأمريكي الذي كان يختبر فعاليتها منذ حرب فيتنام، وفي سنوات الثمانينات بدأ الاعتماد على تلك الطائرات في الخداع العسكري وجمع المعلومات، لكن كل هذا لا يُقارن بالتطور الرهيب في الطائرات المسيرة واستخداماتها في سنوات الألفية الجديدة، حيث أصبحت وسيلة أساسية للتجسس وجمع المعلومات الدقيقة للغاية، حتى أن ساعات تحليق هذه الطائرات إبان الحرب الإسرائيلية الثانية على لبنان 2006 قد فاقت ساعات تحليق الطائرات الحربية المقاتلة.                                                 


Sunday, July 12, 2020

بسبب كورونا: الجيش الإسرائيلي على نقالة بالعزل الصحي

- إلغاء تدريبات ضخمة للجيش. - تجميد مشاريع تكلف مليارات الشواقل. - وزير الدفاع ورئيس الأركان ومجموعة ضباط وكتيبة كاملة في العزل الصحي. - وزارة المالية تطلب من الجيش مزيدًا من التقليصات. - الصراع السياسي بين هاليكود وكاحول لافان يؤثر على ميزانية الجيش. - تدريبات لمواجهة صواريخ من غزة أو هجوم من لبنان. قرر رئيس أركانالجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي إلغاء تدريب كبير كان من المقرر تنفيذه في سبتمبر القادم، حيث كان من المفترض أن يتلقى الجنود أوامر بخطط التدريب خلال الأيام القادمة، لكن بعد مناقشات مكثفة في هيئة الأركان، وكذلك مناقشات مكثفة مع وزارة المالية، وفي ضوء التخفيضات المالية المتوقعة، التي تركت حالة من الضبابية أمام استعدادات الجيش في المرحلة المقبلة، تقرر إلغاء التدريب. التدريب كان من المخطط أن يكون على نطاق واسع، ليشمل أغلب أسلحة الجيش، المشاة والبحرية والتكنولوجيا بالإضافة إلى شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، أي أنه أحد أكبر التدريبات العسكرية الكبيرة التي كانت هيئة الأركان تجهز لها بمشاركة ألفي جندي من الاحتياط وقوات محاكاة العدو (قوة مهمتها تقليد العدو كجزء من التدريب)، تدريب متعدد الأسلحة لمدة أسبوع، لاختبار مدى جاهزية الجيش الإسرائيلي وتحوله من الروتين العادي إلى حالة الطوارئ، ومنها إلى الحرب متعددة الجبهات في آن واحد، ومن بين أهدافه كذلك التدريب على مواجهة مخططات إطلاق القذائف والصواريخ على المستوطنات وقواعد الجيش. التدريب الملغي كان استكمالًا لتدريب سابق بدأه الجيش في سبتمبر من العام الماضي، أُطِلق عليه تدريب "حجر العقد"، وهو تدريب تنظمه سنويا هيئة الأركان، ويحاكي قتالا في عدة ميادين على الجبهة الشمالية ، وتشارك فيه قوات من الجيش النظامي والاحتياطي، لاختبار مدى الاستعداد القتالية بالجيش، وتحسين العمل المشترك بين هيئة الأركان وبين أذرع الجيش المختلفة. هذه التدريبات التي تبدأ في سبتمبر مثلما خططت هيئة الأركان أعلن كوخافي إلغائها هذا العام بسبب تفشي جائحة كورونا، مع عودة أرقام المصابين للارتفاع مجددًا، إضافة إلى أزمة الميزانية التي تعاني منها إسرائيل، لعدم إقرار موازنة العام 2020 حتى الآن، وكذلك حاجة التدريب لملايين الشواقل، فيما تضغط أزمة كورونا على اقتصاد الدولة. كورونا بالجيش إلى ذلك تقرر دخول أفراد الكتيبة 90 نحشون (التابعة للواء كفير المتمركز بالضفة الغربية) إلى العزل في قاعدة عسكرية بمرتفعات الجولان، بعد اكتشاف إصابة إحدى المجندات بفيروس كورونا، وحضرت مع مجندين آخرين حفل عيد ميلاد أقامه جندي بالكتيبة، وبعد الكشف عن الواقعة تم فحص جنود الكتيبة وتبين إصابة عدد ممن شاركوا بالحفل، ومن المرجح أن يُقدم المشاركون في الحفل إلى محاكمة خاصة بعد انتهاء العزل. هذا وقد أعلنت قيادة أركان الجيش دخول أفيف كوخافي وعدة ضباط آخرين العزل، وهي المرة الثانية التي يدخل فيها رئيس الأركان للعزل خلال ثلاثة أشهر، ودخل وزير الدفاع بيني جانتس نفسه إلى العزل يوم الأربعاء الماضي، بعد مخالطتهم مصابي كورونا. جدير بالذكر أن دخول كوخافي العزل جاء بعد نجاته من حادث تحطم مروحية عسكرية كانت تقله من مبنى الكنيست إلى قاعدة للجيش، حيث تعطل أحد مُحركيها. بسبب وباء الكورونا يعاني الجيش الإسرائيلي على مستوى صحة أفراده، إضافة إلى المعاناة الاقتصادية الكبيرة، حيث لم يستطع كوخافي حتى الآن المضي قدمًا في خطته متعددة السنوات "تنوفاه" التي صاغها لتطوير الجيش، بسبب الخلاف السياسي الذي عطل الحكومة عامًا ونصف، ثم وباء كورونا الذي يضغط على الجيش بشكل كبير، حتى أن وزارة المالية تناقش مع كوخافي سبل تحقيق تقليصات إضافية في المصروفات، تشمل إلغاء مكافآت العطلات السنوية للموظفين الدائمين بالجيش هذا العام، وكذلك مكافآت المُدرِسات المُجندات بسلاح التعليم، ناهيك عن تجميد مشاريع أخرى يتطلب تنفيذها مليارات الشواقل. مشاورات حول ميزانية الجيش من المقرر أن تبدأمشاورات حول ميزانية وزارة الدفاع هذا الأسبوع، وعلى ما يبدو ستكون الميزانية المقترحة لمدة عام واحد فقط، أي ستتقرر ميزانية تكفي نهاية هذا العام، وتبدأ المشاورات بين قيادة الجيش ووزارة المالية بينما يقف الطرفان على مسافات بعيدة، مع وجود فجوات مالية كبيرة، حيث يطالب الجيش ببقية مما تقرر له سابقًا من ميزانية كانت مخصصة لتنفيذ خطة التطوير السابقة "جدعون" التي وصلت هذا العام إلى سنتها الخامسة والأخيرة، وتقدر هذه النسبة المتبقية بنحو 32 مليار شيقل، لكن في المقابل تطالب وزارة المالية بأن يضغط كوخافي لتحقيق مزيد من التقليصات على ميزانية هذه الخطة. يواجه الجيش عجزًا زيد عن 20 مليار شيقل، حتى قبل أزمة كورونا، وبالنسبة للخطة الجديدة "تنوفا" التي لم تتم الموافقة النهائية عليها بعد، يبدو أن طموح رئيس هيئة الأركان سوف يصطدم بالتأكيد بما تقدمه وزارة المالية، التي تقترح على كوخافي تحقيق مزيد من التقليصات، تصل إلى نحو 2.5 مليار شيكل، بما في ذلك إلغاء المكافآت السنوية للموظفين الدائمين، وتُقدر بنحو 100 مليون شيقل. مكافأة الموظفين الدائمين مُحددة سلفا، وتعتبر بندًا شبه ثابت في ميزانية الجيش، وتوفر للموظفين تكاليف قضاء عطلة سنوية بفندق إسرائيلي ذي مستوى راق، وبدعم كامل للمتزوجين منهم، وهذه المكافأة مخصصة للموظفين غير المقاتلين بالجيش، ويبدو أن قيادة الجيش مستعدة للموافقة على إلغاء مكافأة هذا العام، إضافة إلى تجميد مشاريع التعليم بالجيش، والتي تُكلف عشرات الملايين من الشواقل. لكن الجيش في المقابل يطالب بما تبقى من الميزانية المخصصة لهذا العام، والتي تقررت لأجل تنفيذ خطة التطوير "جدعون"، بموجب اتفاق سابق بين وزير المالية السابق موشيه كحلون، ووزير الدفاع الأسبق موشيه يعالون، وهو الاتفاق المعروف بـ "اتفاق كحلون- يعلون" لميزانية الجيش خلال السنوات 2016- 2020. لذلك جاء قرار كوخافي بإلغاء تدريب الجيش في سبتمبر المقبل، إضافة إلى تجميد العمل في العديد من مشروعات البنى التحتية التي تتكلف مئات الملايين من الشواقل، ومنها إعادة بناء قاعدتين للواء جفعاتي ولواء ناحل. الصراع السياسي للديوك الخلاف المنتظر بين وزارةالمالية ووزارة الدفاع يتعلق كذلك بشخصي الوزيرين القائمين، فوزير المالية يسرائيل كاتس عضو بحزب هاليكود، ووزير الدفاع بيني جانتس رئيس حزب كاحول لافان، وكلا الحزبين يقفان لبعضهما كاثنين من الديوك النافرة، مما يقلل من فرص الوصول إلى اتفاق مُرضي للطرفين. ومع ذلك خرج المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي ليعلن "عدم التطرق لموضوع ميزانية الجيش الإسرائيلي أمام الإعلام، ولكن سيكون الأمر داخل الغرف المغلقة، بما يناسب الصالح العام". مناورات عسكرية رغم الأزمة وقبل الإعلان عن إلغاء التدريبات في سبتمبر، بسبب الأزمة المالية والوباء، فإن الجيش الإسرائيلي قد أجرى تدريبا خلال الشهر الماضي، شارك فيه نحو 500 جندي مقاتل من وحدات الإخلاء والإنقاذ، باستخدام مروحيات وطائرات نقل عسكرية، لمحاكاة التعامل مع إصابة عمارات سكنية في تل أبيب بصواريخ مباشرة. وشملت التدريبات محاكاة التعامل مع دمار مضاعف وتخريب شديد، وحصار عشرات المدنيين بين قتلى وجرحى تحت الركام، بفعل صواريخ تحمل مواد ناسفة مثل التي توجد في قطاع غزة أو في لبنان. وقبل هذا التدريب قام رئيس الأركان بزيارة إلى وحدة "إيجوز" (اللوز) للكوماندوز المتمركزة في جبل الشيخ بالجزء الشمالي، وتتبع لواء جولاني، واستعرض كوخافي خلال زيارته خطة تدريب لأفراد الوحدة، لمواجهة التهديدات ، وإحباط الهجوم من الشمال، كما تابع رئيس الأركان تدريبًا بالنار الحية يحاكي قتالا على الجبهة الشمالية.