بعيدا
عن الفساد والظلم والتسلط والديكتاتورية وغيرها مما تفشى في عهد مصر مبارك؛ إلا
أنه لم ينجح في شيء قدر نجاحه في تجريف الشخصية المصرية، وتجهيل الشعب، فمن أعظم
مفاسده على الإطلاق تعمده إبعاد وإقصاء ودفن القيادات الشابة والموهوبين والمخلصين
والوطنيين من المصريين عن المواقع التنفيذية والقيادية والعلمية والثقافية
والجماهيرية.
في
المقابل اتبع مبارك ونظامه منهجا جاسوسيا مُدمرا لأوصال الدولة بتنصيب الفاسدين
والمتلونين وأصحاب النفوذ والسلطة في المناصب والمراكز القيادية في كل أرجاء
الدولة، فبإضافة إلى كونهم وصوليين وانتهازيين وطامعين في لحم الوطن ورزق المواطن؛
كذلك ظهرت واضحة للعيان أمارات كسلهم
وفشلهم في العمل والإدارة والتفكير، فوصلنا إلى حال يندى لها الجبين من الفساد
والتخلف والبيروقراطية.
على
جانب آخر نجح مبارك بجدارة في مسعاه نحو تجهيل الشعب المصري بكل طوائفه، والتجهيل
لم يكن قاصرا على فئات بعينها تشيع بينها الأمية والفقر، بل شاع الجهل في جميع
الأوساط الشعبية وعلى جميع الأصعدة، بداية من الفلاح الأمي وصولا إلى أساتذة
الجامعات.
واستند
النظام البائد في إشاعة الجهل إلى مجموعة من الأدوات التي استغلها بمهارة شياطين
الإنس، بداية من تجويع الشعب، ليبحث فقط عن قوته بدلا من غذائه الروحي وثقافته،
مرورا بتقييد كل محاولة للإبداع والثقافة، بل أية محاولة متواضعة للتفكير والبحث
والتنوير، معتمدا في ذلك على منظومة متشابكة من الأسلحة التي أصابت العقل المصري
في مقتل، حيث تعمد النظام المباركي - ومن قبله الساداتي - إهمال التعليم، والتفرقة
بين طوائف الشعب تبعا لمستوى سلطة كل طائفة، وربط أمن المصريين بخنوعهم للحاكم،
وكبت كل مساعيهم نحو تطوير أنفسهم ماديا واجتماعيا وفكريا وثقافيا.
هذه
الشبكة العنكبوتية نتاج تجريف العقل المصري وتجهيله لم تستطع أن تخترق جماعات
الشباب المصريين الذين انفتحوا - رغما عن السادات ومبارك - على العالم الخارجي،
فلم يعد بإمكان أي حاكم ديكتاتور أن يغلق على أبناء شعبه كل المنافذ والأبواب، ولم
يعد باستطاعته وضعهم جميعا في قمقم واحد، فيخرجهم متى يريد ويحبسهم متى يشاء.
وحينما
تطلع هؤلاء الشباب على العالم وما يجري فيه نظروا إلى أنفسهم وأهليهم مليا، فتبادر
على الفور سؤالهم عن مكانة مصر بين بلاد العالم، أين هي من العالم الحر، أين مصر
التي ما خضعت لمُحتل، أين هي من العالم المتحضر، أين هي من الفكر والثقافة
والعلوم، أين خيراتها ونيلها ومنابع أرزاقها، أين تراثها وحضارتها العريقة الآن،
أين عقول أبنائها وسواعدهم، أين أزهرها الذي أنار العالم بالإسلام الوسطي الذي
ينفع الناس، أين هي من التسامح والحميمية؟! و الإجابة عن كل هذه التساؤلات هي ثورة
25 يناير.
تفاءلنا
كثيرا وحلمنا بمصر الجديدة، غير أننا لم نتعلم من أخطاء الماضي، فلم نلفظ الماضي
الكئيب برمته، أخطأنا حين تنازعنا ففشلنا فذهبت ريحنا، وأخطأنا أكثر حينما بدأنا
نضع أساس الدولة الجديدة فوق ركام الدولة العميقة، ربما ظن البعض أن أشباح الماضي
لن تظهر مجددا فتخيفنا وتدمر حلمنا، وهذا الظن المبني على حسن نية ساذج هو ما أدى
بنا إلى هذه الحال.
من
قام بالثورة مصريون استطاعوا الهروب من مقصلة تجريف العقول وتجهيل الشخصيات، غير
أنهم سلموا كل ثورتهم بمنجزاتها لأولئك الذين كانوا عماد النظام المباركي البائد،
بحكومته ومعارضته، هذا النظام الذي ولّد لنا مسخا يطاردنا حتى الآن.
بعد
ما يقرب من عامين على الثورة ما يزال المفكر الذي ينورنا هو نتاج نظام مبارك، ما
يزال العالم يُنظّر لنا بعقلية مبارك المُجرفة، انظر إلى من يتصدرون المشهد الآن،
المشهد بكامله، انظر إلى الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، انظر إلى عقليات الساسة
والخبراء والمفكرين الذين يتولون أمرنا ويقودونا ويحتلون حياتنا، في الشارع ، في
وسائل الإعلام، في المناصب، في الحكومة، في المعارضة، للأسف ستجدهم نفس الشخصيات
الوصولية المتنطعة التي لعب نظام مبارك في عقولها، تكتشف مدى خوائهم الفكري
وانتهازيتهم السياسية وجهلهم الديني وتلونهم الفاضح.
إلى
الآن بعد كل ما بذله مصريون طاهرون من أجل مصر منذ اندلاع الثورة يقودنا ساسة
منافقون، حكومات ديكتاتورية مستبدة، معارضة حنجورية بلا فعل، مُدعين دين جهلة
يتذرعون بحكمة زائفة وتدين شكلي، مجموعات من المتنطعين على شاشات التلفاز وصفحات
الجرائد يدعون الحكمة والعلم والدراية يخدعون أنفسهم بالبزات الأنيقة أو الرداء
الأبيض وزبيبة الصلاة، ويختفون وراء شعارات زائفة.
أيها
السادة؛ نظام مبارك لم يسقط، رجال مبارك لم يرحلون، فقط وضعنا الديكتاتور في
مستشفى السجن، وتركنا آله وزمرته وجحافل زبانيته يمرحون في الأرض بغير الحق، فإذا
كنتم تبغون مصر الجديدة حقا فعليكم أولا أن تلفظوا هؤلاء جميعا، فقد وضح جليا الآن
أنه لا فارق بين نظام مبارك والنظام الحالي إلا في الشكل الخارجي، بيد أن الأسلوب
هو نفسه، والعقلية هي ذاتها، فهؤلاء جميعا
نتاج منهجية التجريف والتجهيل.
No comments:
Post a Comment