ليلة الفصح الأخيرة في مصر
قصة مترجمة عن العبرية
بقلم "عادا أهروني - עדה אהרומי"
المؤلفة إسرائيلية من أصل مصري، ولدت عام 1933م، وصلت إلى فلسطين عام 1950م عبر فرنسا، شاعرة وأديبة ومترجمة وباحثة أكاديمية.
السيرة الذاتية الكاملة لها بالعبرية على موقع "ويكيبيديا":
القصة ترجمة: محمد عبد الدايم هندام.
ليلة الفصح الأخيرة في مصر
( بقلم: عادا أهروني)
مات أبي "نسيم يديد" في الفصح، ليس في مصر، أو في إسرائيل، وإنما في فرنسا، مات بأزمة قلبية بعدما تم
إبلاغه أن كل ثروته وماله تمت مصادرتهم في مصر، مثله مثل باقي اليهود، رغم أنه أودع كل ثروته في بنك سويسري. أنا أتذكر زيارتنا معاً إلى البنك السويسري في مرسيليا، كما لو جرت اليوم.
عندما اقترب أبي من الموظف لسحب أمواله قيل له أنه بعدما
فتح الحساب في القاهرة صادرت السلطات المصرية كل أمواله ، كما قيل له أنه لا سبيل
لاسترجاعها، أبي القاضي الثري تحول بين
ليلة وضحاها إلى فقير معدم لم يستطع أن يستوعب الصدمة الثقيلة التي هبطت على رأسه.
"هذا ظلم بين الأمر يخالف كل أحكام القضاء والمنطق
السليم"صاح أبي مرتعشاً باتجاه موظفي البنك، احمر وجهه، والوريد الأحمر في
صدغه بدأ يخفق بقوة، حاولت تهدئته، لكن دون جدوى. "أريد أن أتحدث مع
المدير" صاح،" أين هذا اللص؟"
وصل مدير البنك
في فزع وشرح لأبي بأدب لكن بنغمة جافة وباردة:
"مسيو هذه
التعليمات التي تلقيناها، ليس في يدي شيء لأفعله بالجدال".
"لكني أودعت كل ثروتي في البنك السويسري وليس في
بنك مصري! صرخ أبي في ألم.
"مسيو؛ ليس بيدي شيء لأفعله، هذه هي التعليمات آسف
لك جداً"
أخذ أبي بياقة معطف المدير وطوح به بكل قوته، لم
أره أبداً يفقد سيطرته بهذا الشكل
على نفسه.
"آسف لك؟ صاح بصوت عال، بينما زبد أبيض يتجمع على جانب فمه،
" تقف
أمامي هادئاً، وتتجرأ أن تقول لي في وجهي، لفرط وقاحتك أنك آسف بشأني؟ مشاعرك لا تعنيني
سيدي المدير، لن تساعدني على الإطلاق، سارق مثلك، كل ما تريده هو أن تنهب مني كل تعب
حياتي، وتقول لي آسف!" ومرة ثانية طوح بقوة المدير المفزوع.
"أبي؛ اتركه، ليس ذنبه" ناديته بيأس وأنا
أحاول أن أفرق بينهما.
"المدير ليس مسئولاً عما حدث".
جرى اثنان من الموظفين باتجاهنا، أخذوا أبي ودفعوه بقوة
إلى الحائط، وجهه كان أحمراً كالدم، وانهمرت
دموع من عينيه، منظره أخافني، تنفس بصعوبة ولم يتحكم بنفسه، خشيت على صحته بشدة.
"أنستدعي الشرطة يا سيدي المدير؟" سأل أحد الموظفين.؟
"لا، لا ضرورة، سيعود لصوابه حالاً"أجاب
المدير وقال موجهاً كلامه لي:
"خذي أباكِ من هنا من فضلك يا مدموذيل، وإلا سنضطر
لاستدعاء الجندرمة (الشرطة)".
شبكت زراعي برقة في زراع أبي وحاولت أن أخرجه من البنك،
لكنه قاوم بكل قوة، شهق وزفر بصعوبة وتحدث بصعوبة.
"لم أنتهي
بعد من بنكك يا سيدي" نادى في النهاية بصوت يقطع القلب، باتجاه المدير، قبل
أن أنجح في إخراجه إلى الشارع.
"سنلتقي
كذلك في المحكمة" أضاف بيأس.
لم تفلح كل محاولات أبي للإفراج عن ثروته، فقد تم سن
قانون في مصر بمصادرة كل حسابات البنك الخاصة باليهود بواسطة الحكومة، ولم يكن
ممكناً أن نفعل شيئاً ضد هذا، كل ثروة القاضي "نسيم يديد"، بما فيها
مهري، وتأمين أخي "جابي"، والإرث الذي أورثته لنا "نونا زينا"،
كله صودر ولم يتم إرجاع شيء لنا، كانت الضربة
ثقيلة على أبي، لم يحتمل قلبه. لدى عودتنا من البنك السويسري، عندما وصلنا إلى مخيم معبر "زبولون"، فقد وعيه تحت شجرة تين،
أصيب بأزمة قلبية، في هلع رأيته يهوي على الأرض بوجه متشنج جسده يتقلص من الألم، ركض نحونا أناس مفزوعون:
"نحتاج سيارة إسعاف" صاح أحدهم.
أسرعت لأذهب بأبي لمستشفى، لكن الأطباء لم ينجحوا في
إنقاذ حياته، انهمرت الدموع من عينيَّ، أبي الغالي، لم نتخيل نهاية حياتك بهذا
الشكل. حول قبره، في مقابر ضاحية مرسيليا الباردة والمنفرة، غرست شتلات نعناع،
ريحان وعبير، همست له :
"من أجلك يا أبي كي تكون محاطاً بروائح محبوبة، من
أجلك يا أبي الغالي، لأنك علمتني دائماً أن أزرع وأشتل، كذلك هناك في مصر".
تذكرت كيف كان يعود في كل ليلة أحد من معبد "بيت
السماء" في شارع "عدلي" بالقاهرة، وهو يحمل بفخر كتاب الصلوات
اليومي والطليت()
(شال الصلاة) وغصنا نضرا من الريحان الفواح،
" جمعتك خضرا" أي ليكون أسبوعك أخضر، أن يكون لنا جميعاً أسبوع أخضر". باركنا أبي، ببركة اليهود المصريين
الجميلة.
"خالق أشجار العطور"..ابتسم أبي، وجهه يتلألأ
بهدوء عندما يهز غصن الريحان الأخضر فوق رؤوسنا المنتبهة
- "لكن لا تحفظوا الأسبوع الأخضر فقط لأنفسكم- قدموه
مرة أخرى للعالم، بأن يزهر كله ويتعطر".
عندما دمعت عيناي وتحطم قلبي، فكرت بحزن عميق:
"من سيمنحني الآن أسبوعاً أخضر؟".
بجانب قبره، في
ليلة فصح حزينة، تذكرت ليلة الفصح الأخيرة التي احتفلت بها العائلة
في القاهرة،كل عائلة "يديد" تجمعت في ليلة الفصح الأخيرة تلك، جاء أيضاً
أولئك من بعيد، من الإسكندرية وبورسعيد، الكل تزينوا بزي احتفالي،
أبي "نسيم وأمه، "نونا زينا"، كانا محاطين بفخر على رأس
المائدة العامرة بأفضل الطعام التكريم التقليدي، أمامهما، على المائدة، طبق الفصح
فوق الست تجاويف، وبداخلها أطعمة الفصح، أكثرمن كل شيء أحببت "الحروسيت"()
الخاص الذي
تعده نونا المصنوع من التمر واللوز والجوز.
"ماذا تغير هذه الليلة عن كل الليالي؟" فكرتُ في
حزن، هذه الليلة أبي لم يعد معنا، هذه الليلة "الخروج الثاني من مصر"
بكل شدته، ويبدو أن أحداً غيرنا لم يسمع عنه،
الخروج الأول من مصر قبل آلاف السنوات معروف
للجميع أكثر من الثاني الذي حدث في
عصرنا بالضبط ، شعرتُ بغضب شديد من كل هؤلاء
الذين سببوا معاناة كبيرة جداً لأبي، لجدتي ولكل عائلتنا وطائفتنا. كيف يمكن أن يعرف الجميع
عن معاناة الفلسطينيين من إسرائيل،
ولا أحد يعرف شيئاً عن طرد مليون يهودي من
الدول العربية؟ لماذا لا ينهض أي زعيم في العالم
للاحتجاج على تدمير طائفتنا ذات الثلاث آلاف
سنة ومصادرة كل ثرواتنا؟ ألكوننا يهود؟ هل
يفترضون أننا معتادون على
الاقتلاع من الجذور في كل جيل
وجيل ونهب كل ما هو لنا؟هل يفترضون أن الأمر طبيعي في دمنا،
وعلى العكس لا يؤلم مجدداً؟ وإنما فقط نستطيع أن نُخرج
العنف والحروب من العالم ومن حياتنا!
وإنما فقط نستطيع أن نقوم بالصلح مع الفلسطينيين!.
كلا الجانبين قد دفعا بالفعل ثمناً باهظاً هنا! شروط الصلح قد اكتملت، لو كان
الأمر يتعلق بصديقتي "سليمة" وبي؛ لكنا
من زمن نعقد سلاماً، لو كانت النساء يستطعن أن يؤثرن
ويحسمن، لكُنا صالحنا بين الشعوب بسرعة.
أؤكد لك يا أبي؛ أنني سأحاول بكل قوتي أن أنتهج الحوار
عندما أكون في إسرائيل، سأحاول أن أتحدث للنساء اليهوديات والعربيات كما فعلت "ليزيستراتا" في
مسرحية "أفيفاناس"، ومعاً سنسعى للتأثير على أزواجنا وأبنائنا والوصول للسلام بين اليهود والعرب.
في ذاكرتي مرت أيضاً صور أخرى للمائدة على شرف
ليلة رأس السنة، رأيت في مُخَيلتي حبات الرمان، رمز حكمة شعب إسرائيل الزاخر كالرمان،
تنغمس في عصير ماء السوسن اللذيذ في إناء "نونا" الكريستال، رأيت
الحبات تتطوح من جانب لآخر، كوننا يهود "الخروج
الثاني من مصر" كنا مثل ما كان بإناء الكريستال، على سفينة في وقت العاصفة،
في خيالي؛ فجأة انسكبت كل حبات الرمان، بلون آخر على مفرش "نونا"
المطرز الأبيض الجميل، كوننا – فكرتُ مجدداً- كل طائفة يهود مصر
تشتتت في كل اتجاه.
غمغمتُ لنفسي بكلمات "نونا" في ليلة الفصح،
رداً على سؤالي الساذج"كيف نشكرالرب لأنه أخرجنا من مصر ونحن ما نزال
بمصر؟".
في كل ليلة فصح كانت نونا تجيب بابتسامة رقيقة نفس الإجابة،
باللادينو:
" אל דיו אס טאדרוזו, מא נו
אסאולבידוזו"-
"الرب أحياناً
يؤخر، لكنه لا ينسى قط! ولن ينسى شعبنا في مصر"، فكرتُ بيني وبين نفسي، الرب لم ينس أن يخرجنا للمرة الثانية من مصر، لم ينس... لكن "نونا" ماتت، أبي مات- وعائلتنا
وطائفتنا تبعثرا بكل اتجاه!.
فجأة صدحت بأذنيَّ المقطوعة
التي أحبها أبي كثيراً، "بلادا" باللادينو تعلمها من جدته، كأنما خرجت المعزوفة
من القبر، وسرت في أذنيَّ، وداخل قلبي بشدة، بمرافقة بيانو الجدة "إستير":
El pasharo vola - el
korasson"
Yora, yora mi alma yora,
no te deshan vivir
Tenemos mala gentes,
No te deshan vivir"
"الطائر طار والقلب
تحطم، ابكي يا مهجتي، ابكي، لأنه
يوجد أناس سيئون لا يسمحون
لنا بالحياة....في كل جيل
وجيل يقفون لنا
ليبيدوننا"
تمايلت شتلات النعناع
والريحان والعبير على ألحان موسيقى القداس على شرف أبي المُبجل في هواء فرنسا
البارد، بينما الرائحة المحببة لديه تتسلل حتى مهجتي ومهجته معاً، داخل الأرض
الغريبة مجدداً تحطم قلبي لكوني لم أستطع من تنفيذ أمنية أبي بأن يدفن في
إسرائيل(فلسطين) كما أحب...هو مايزال هناك... وأنا هنا في وطني.
()الطليت( شال الصلاة) טלית: رداء أو عباءة مستطيلة الشكل لها أهداب(ציצית) في أركانها الأربعة،
يلفها اليهودي على كتفيه أثناء الصلاة، وهو اقتباس حرفي للوفاء بوصية موسى في سفر العدد 15 ، 37-41. وكان اليهود يرتدون الطليت في عصر المشنا
والتلمود، على غرار ما كان يفعله الرومان، وكان يصنع قديماً من الكتان أو الصوف،
وعادة ما يكون لونه أبيضاً، وأصبح ضرورياً أن يرتديه الرجال عند الصلاة، وصنعوه من
اللون الأبيض تتخلله خطوط زرقاء، ويرتديه العريس اليهودي في يوم عرسه، كما يُدفن
اليهودي المتدين به، بعد إزالة الأهداب (الصيصيت)، وقد يرتديه والد الطفل أثناء
إجراء عملية الختان لابنه.. ولهذا الشال في طهارته أحكام خاصة أهمها أنه لا تلمسه
النساء، ويخصص له موضع معلوم بالمنزل، ويجب على اليهودي لبسه منذ أن يبلغ سن التكليف
بالعبادة وهي ثلاث عشرة سنة.
()
חרוסת
الحروسيت: وجبة
يتناولها اليهود في عيد الفصح تتكون من مجموعة من الفواكه أهمها التمر، وكذلك
اللوز والجوز ، ويضاف لهم بعض التوابل، ويصب فوقهم الخل أو النبيذ.