مقال منشور على موقع قل، انقر هنا
من يحتاج حساب النفس؟
محمد عبد الدايم
"دولة كاملة بحاجة لحساب نفس"
كان هذا عنوان فقرة إخبارية على القناة الثانة
الإسرائيلية الأسبوع الماضي، في أعقاب هجوم حريدي[1]
متشدد على مسيرة الفخر بالقدس.
أستهل بالمعطيات التي أدت لهذا العنوان:
كل عام تقريبا يتجمع عدد كبير من المثليين في إسرائيل،
ومن يتضامن مع ما يعتبرونه حقوقهم في التعايش والمساواة بكل أفراد المجتمع
الإسرائيلي، هذا التجمع يُطلق عليه "مسيرة الفخر"، أي الفخر بمثليتهم لا
إخفاؤها أو التستر عليها، وتتسم مسيرة الفخر بالسلمية مع الألوان المبهجة
واللافتات المؤيدة والشعارات المناهضة لكبت المثليين إضافة للاستعراضات
والمهرجانات الغنائية الراقصة.
إلى هنا والأمر طبيعي في دولة يسعى مواطنوها للحصول على
حرياتهم كاملة، لكن إسرائيل في نفس الوقت تتألف من مجموعات عرقية وأيديولوجيات
مختلفة أشد الاختلاف لأسباب معروفة راجعة لطبيعة تأسيسها وقيامها على أرض فلسطين،
ومن ثم فلا غرو أن تجد كتلة الأصوليين المتدينين لها ثقل كبير في المجتمع
الإسرائيلي على كافة الأصعدة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وبطبيعة الحال
ترفض طوائف المتشددين (الحريديم) المثلية الجنسية رفضا تاما، وتقف ضد وجودهم وضد
أي قانون يمنحهم حرية الارتباط والزواج بل والوجود على الأرض.
خلال مسيرة الفخر التي جرت في القدس الأسبوع الماضي ظهر
فجأة أحد المتشددين وقد حمل سكينا كبيرا وشرع بكل هدوء يطعن من حوله من المشاركين
في المسيرة، فأصاب ستة منهم، اثنان حالتهم كانت خطيرة، حتى ماتت أحدهما يوم الأحد
2/ 8/ 2015 متأثرة بجراحها، وهي فتاة صغيرة تُدعى «شيرا بنكي» تبلغ 16 عاما، وبقية
الإصابات بسيطة ومتوسطة.
المعتدي أثناء ارتكاب جريمته وفي الإطار صورة الفتاة التي لقيت مصرعها متأثرة بإصابتها |
الملفت في الحادث أن المعتدي خرج لتوه من السجن منذ
ثلاثة أسابيع فحسب، حيث كان يتلقى عقوبة السجن لنفس الجريمة منذ عقد، فقد نفذ
المعتدي جريمة طعن مماثلة بحق مشاركين في مسيرة الفخر منذ عشر سنوات، وخرج من
السجن ليكرر جريمته بكل هدوء، ويعلن بعد القبض عليه أنه لا يعترف بصلاحية المحكمة
التي سيمثل أمامها.
ما بعد الحادث
هزت الجريمة أركان إسرائيل من قمتها إلى قاعها، وقامت
الدنيا ولم تقعد حتى هذه اللحظة، فأعلنت الحكومة الإسرائيلية على لسان رئيسها «نتنياهو»
شخصيا استنكارها للحادث، كما أعربت عن تعازيها للضحايا، وأسفها على ما جرى، وأما
عن رد فعل المجتمع الإسرائيلي فحدث ولا حرج، حالة صدمة شديدة وذهول واستنكار وغضب
عارم في صفوف الإسرائيليين المؤيدين للحريات الخاصة، وعلى مستوى الإعلام
الإسرائيلي كان هذا الحادث في صدارة المشهد بلا منازع.
أخبار صحفية وتقارير وتغطيات إعلامية مرئية ومسموعة
ومكتوبة تتفاعل مع الحادث، واستجوابات لقادة الشرطة الحاليين والسابقين وأعضاء
الكنيست والحكومة، وهجوم عارم على دولة رئيس الوزراء، ناهيك عن التحليلات الأمنية
والنفسية والاجتماعية لأسباب وتداعيات هذا الحادث.
في المقابل كتب أحد المتشددين الحريديم تعليقا على حسابه
الخاص على فيسبوك يتضامن فيه مع ما ارتكبه قرينه بحق المشاركين في المسيرة، وقال
فيما معناه: "طالما أنك انتويت القيام بنفس العمل مرة أخرى كان يجب عليك أن
تركز لتقتل أيا من هؤلاء الشواذ الملعونين، بما أنك ستُسجن بالطبع وستطول مدة حبسك
هذه المرة، وعلى كلٍ أتمنى أن يموت أي من المصابين جراء الحادث لتكون قد وُفقت في
قتل أحدهم على الأقل"، وفي أقل من 24 ساعة تم القبض على المواطن كاتب هذا
التعليق.
إلى هنا والأمر عادي بالنسبة لدولة تسعى جاهدة لاحترام
حقوق مواطنيها في الحرية والأمن، حتى لو كانت السلطة السياسية ترفض الاعتراف بحرية
المثليين في الارتباط القانوني، فلا تستطيع أن ترفض أو تمنع مسيراتهم واحتفالاتهم
وإعلاناتهم، لأن هذا يندرج تحت بند الحرية الشخصية للمواطن في التظاهر والإضراب
والاحتفال، مع احتواء المتشددين دينيا منهم ومناهضة أفكارهم الأصولية ضد مجتمعهم،
بعيدا عن التفكير في حقوق الشعب الفلسطيني المقهور على مدى عقود طويلة.
ما يلفت النظر هنا هو الاهتمام البالغ بروح الإنسان في
إسرائيل، ووضع أمنه في صدارة الأولويات، إلى جانب المحافظة على حقوقه المدنية
والشخصية، فمثلا تم إخفاء وجوه المصابين في المسيرة احتراما لحقوقهم وحرصا على عدم
إيذاء مشاعر ذويهم ممن يتابعون أخبار الحادث في وسائل الإعلام، مع سرعة تواجد قوات
الأمن في المكان والقبض على المعتدي دون الاعتداء عليه ضربا أو سبا، فكونه مجرما
معتديا لا يجعله عرضة للتعذيب النفسي أو البدني على أيدي قوات الأمن، بل تم القبض
عليه وتكبيله دون عنف، فأولا وأخيرا هذا مواطن له حقوق، وهذه دولة تطبق القانون
على مواطنيها، ومحظور الاعتداء على أي منهم من قبل قوات الأمن.
"دولة كاملة بحاجة لحساب نفس"، هالني عنوان
الفقرة التحليلية على القناة الثانية الإسرائيلية، حادث كهذا نعتبره في بلادنا
هزلا ولعبا، في الوقت الذي يتساقط فيه يوميا قتلى بالعشرات، وربما المئات، جراء
اعتداءات بلطجة، أو وقائع ثأر، أو حوادث طرق، أو عمليات إرهابية، أو أخطاء طبية،
أو تسمم، أو تدافع، أو حتى معالجة أمنية شديدة الوطء لإشكالية ما، في حين أنه إذا
لقي مواطن إسرائيلي مصرعه جراء حادث سير تنقلب الدنيا وتصبح الدولة في حالة أشبه
بالحداد.
عزيز المواطن المصري انظر إلى كم الضحايا الذي يتساقطون
كل لحظة وتتشرب أرضنا دماءهم، انظر إلى صور الضحايا التي تسارع وسائل الإعلام
بنشرها دون مراعاة لحقوق أصحابها أو مشاعر ذويهم، حتى المعتدي والمجرم من المفترض
أن له حقوقا طالما لم تتم محاكمته، انظر إلى أولويات الأحداث التي تُنشر وتعرض في
وسائل الإعلام، ليس افتتاح مشروع أو حفل كبير أو انتصار كروي أو تعيين مسئول ما أو
إقالته أهم من خبر إصابة مواطن أو مقتله، المواطن أولا، الإنسان قبل كل شيء.
أي دولة تحترم مواطنيها تسعى أولا للحفاظ على كل قطرة دم
تجري في شرايينهم، أي دولة تحترم حقوق الإنسان تحافظ على أمنه ومشاعره وحريته، أي
دولة تقوم على أسس سليمة تقدس حرمة النفس البشرية، وفي الحالة الإسرائيلية هذا لا
يتعارض مع ما ترتكبه إسرائيل مع الفلسطينيين، فواقع أن إسرائيل دولة ترتكب جرائم
يومية بحق شعب أعزل مكلوم لا يتنافى مع واقع أنها دولة تسعى للحفاظ على روح كل
مواطن إسرائيلي.
أي الفريقين أحق بحساب النفس إذن؟!
[1] كلمة
الحريديم ( החרדים) تعنى بالعربية : الأتقياء، أو المتقين، وهى تطلق على
طائفة من المتدينين اليهود، التي تؤمن بأن التوراة كلام الله، وتؤمن بها إيماناً
كاملاً كما أسلفنا الحديث، إضافة إلى التلمود وسائر الكتب الدينية الأخرى، ووصل ببعضهم
التزمت إلى حد أنهم طالبوا بعدم تغيير الطريقة التي يرتدى بها اليهود ملابسهم، أو
يقصوا بها شعرهم، ويدافع "الحريديم" عن كل المقولات اليهودية التقليدية
والأساطير القديمة، فيؤمنون بعودة المسيح المخلص بشخصه، وكذلك بالعودة إلى فلسطين
بمشيئة الرب وليس بحسب إرادة إنسانية، ومن هنا كان اختلافهم مع الصهيونية -
باستثناء فريق منهم بات يُعرف بالصهيونية الدينية- وعدم انخراطهم في مؤسسات الدولة
بعد قيام إسرائيل، إيماناً منهم بأنها تخالف مفهوم العودة الدينية إلى فلسطين في
نظرهم، وهذه الطائفة يسميها البعض :" اليهود الأرثوذكس"، ولكن التعبير
العربي الأدق لها هو الأصوليون اليهود.
No comments:
Post a Comment