Friday, August 18, 2017

نثرية ذاتية

    لست صبارة حمول، لست جملا صبور، روحي تقتات من الحزن لقيمات، تغمس فيه وتأكل باعتياد.
   أهدهد الوجع، ربما يخمل، أراه يتثاءب فوق صدري، حين أغطيه بخفة لينام؛ إذ به ينتفض فزعا مفزعا.
  لا أخفيك سرا يا صديقي، ربما لست صديقا لا يهم؛ أن الشعور الجامح باقتراب الأجل يدنو مني حتى تلفح أنفاسه وجهي، ولا أخشاه، ولا أعافه، بل أكشر له عن أنيابي الشائخة، وأشق له طريقا إلى صدري أن هيت لك.
أقترب بخطوات متسارعة من الانهيار الكبير، سأسبق جبال الجليد بالطبع، وربما الكوكب الذي سيصدم أرضنا عما قريب في محاولة انتحارية منه لتخليصنا من الشقاء.
لا أنام كثيرا، لا أنام جيدا، النوم يهرب وينزلق، والأرق يصمد ويسيطر ويرفع راية تنغرز عصاها في الصدر.
ككل عام، تتزامن لحظات التداعي، وإرهاصات السقوط الحر مع حلول ذكرى ميلادي في يوليو الحار، ذكرى لا تزال تكرر نفسها في رتابة مبتذلة، لا تنفك عن إقلاق مضجعي، رغم محاولاتي البائسة لطمسها، وكلما أوشكت على النجاح، واستدعاء النسيان لمحوها؛ إذ بـ"فاعل خير" تنشق عنه الأرض؛ يقرر وأنفاسه تتلاحق من فرط سعادة لا أرى لها سببا عقلانيا أن يذكرني بذكرى تتثاءب حتى تفيق، فتنهض من فوق حشيتها المتربة وتجاعيد وجهها تختلط مع علامات من أثر ما، ربما مدية أو ضربة قديمة.
هذا العام أفضل من الثلاثة والثلاثين الذين سبقوه إلى لحدهم؛ لم يتذكرني سوى شخص أو اثنان ربما، لم أفتح حاسوبي لأسمع – كعادتي- "عدت يا يوم مولدي"، فخدمة الانترنت كانت منقطعة، وبالتالي حاسوبي في عداد الموتى، كما أحلامي، كما سمكتي "مهجة" التي أتذكرها بالخير، كما شجرة الفل وجارتها الياسمينة، كلهم رحلوا وأنا لم يأن أواني بعد حتى اللحظة.
تطيب نفسي حين أتخيل الهدوء الأخير، أرنو إليه وأشعر به يحتضنني، كتبت عنه قصة كاملة، عنه وإليه، وجاءت فكرتها منه، أفكر فيه وأنا أتأمل في مرآة صغيرة شعيرات بيضاء تسللت من رأسي الأشيب إلى لحيتي التي استطالت على غير عادتها وعادتي ونمت مشعثة، ربما هربت الشعيرات البيض من زحام أخواتها في رأسي، وربما أقلقها تصادم الهلاوس في جدار عقلي، تصادما أكاد أسمعه، وأشعر به بالتأكيد.
نعم ألاحظها؛ نظرات دهشة ترتمي علي من هنا وهناك، نظرات استنكار ربما، وربما نظرات ريبة، مثل التي كانت على وجه أمين الشرطة في لجنة مرور ترك الجميع واستوقفني وأنا أقود، أحيانا أكتشف وجود نظرات شفقة تهيم حتى تلتصق بي، لا أعيرها بالا، ألقيها بعد أن أكورها بأصابعي كغلاف قطعة حلوى يعطيني إياها موظف الكاشير بدلا من الفضة الباقية بعد شراء مستلزمات البيت التي صارت تقل كثيرا وترتفع قيمتها جدا.
حتى نظرات الخوف الحنون المخلص في عيني أمي لا تخيفني، تثير في نفسي ألما لأنني أسبب لها ألما، ووجب على الألم أن يكف عنها، فأسعدها حينا يا إلهي.
أتذكر مقدمة قصتي "قنطرة إلى الماضي" التي تجشأتها على الورق دفقة واحدة: "لم أفهم لماذا يعاودني حلم الطفولة المخيف، حين وقفت أمام المرآة أعلى الحوض نظرت إلى وجهي وأنا أُفَرشُ أسناني، تخيلته يتموج في حركةٍ مستمرةٍ من أعلى لأسفل، توقفت عن تحريك الفرشاة هنيهة وفركت عيناي، اختفت الضبابية أمامهما قليلًا ولم تختف التموجات، أرى وجهي في المرآة ليس وجهي، جبهتي ليست جبهتي التي أعيش بها، عيناي لا تخصاني، والسواد تحتهما كسخام الفرن الذي كنا نلون به أصابعنا ووجوهنا، بينما تعد جدتي وأمي وخالاتي العجين على المطارح وتقدمنه للحاجّة أخصائية الجلوس أمام الفرن، ممسكة بعصا رفيعة من الجَريد وأخرى من الحديد معقوفة في نهايتها، أنفي أكثر انبعاجًا من أنفي، أذناي تكادا تتمددان لأسفل، فمي الذي تخترقه فرشاة الأسنان ويسيل منه خط من المعجون مع اللعاب أشبه بفم مصاص دماء يخشى النور، يدخن غليونًا ويسيل الدم على جانبيه، وذقني تترهل لأسفل حتى تكاد تصل لبداية صدري." والآن أشعر بروحي تترهل وليس ذقني، وجغرافيتها واد مقحل ليس إلا أتيه فيه.
يوليو وأغسطس؛ آه منهما، حرارة تذيب أرواحنا وقيظ يشوي أجسادنا، يلقيان فوق صدري حجارة ذات بروز جارح، تسقط من حالق بهبوط جامح، وتركن فوقي بهدوء سارح، يوليو يحمل في طياته ذكرى تاريخ ميلادي، الذي استبدلته أمي في الأوراق الثبوتية بتاريخ آخر في أواخر أغسطس، من الرمضاء إلى النار، كما جرت العادة حينها، وددت لو اختارت شهرا آخر، ثم ساءلت نفسي: ما الفارق؟!.
كتبت نصوصا أدبية كثيرة، ربما تر النور يوما ما، وربما تظل جثثا بلا كفن كسابقاتها، قرأت كتبا كثيرة ونصوصا شعرية ونثرية، طمعت أن أكتب مثلها، أو بصقتها كرها لها، أقلعت عن بعض الأدوية المفروضة لدواع صحية مزمنة، لشعوري بالملل من تكرار العادات، وابتلاع الكبسولات على مدار اليوم، وتوفيرا لمال تتناقص قيمته حتى لم يعد يدفئ جيبي أو يفي بحاجة متواضعة، كما هو حال الملايين.
أخرجت بزات رسمية من خزانة ملابسي مضطرا لأحضر حفلات زفاف، وقدمت التعازي لأصحاب في وفاة ذويهم ممن سبقوني ورحلوا، وأنا ما زلت على عادتي: أحرص يوميا على قلب ورقة النتيجة، وأنظر في الساعة كل دقيقة، ربما...
تصادفني كثيرا سطور قصتي "الهدوء" بمجموعة "كراس تسعة أسطر":
"يحيرني حقيقة، لا أفهم ماذا يفعل الآن، يتجول في الغرفة مجددا، يتدحرج، يقفز عاليا ليمسك بالمصباح الأبيض المبهر، يحجب الضوء للحظة بجسده، شكرا لك، نعم أريد بعض الظلام، أريد بعض السكوت، أريد الرحيل، اصرخ كما تشاء، تجول وافرد أجنحتك، دعك من هؤلاء المحيطين بنا، لا تعطلك الأسلاك والأنوار، اسمح لي فقط أن آخذ نفسا عميقا وأغمض عيني، لأتدحرج من وراء جفوني في منحنيات حياتي القصيرة، صعود، هبوط، راحة، صعود، سقوط، توجع، وقوف، حُب، إقلاع، بلوغ، خوف، حُب، تخرج، ابتسامة ثقة، عمل، آه، تشبث، شك، حب، زواج، خسوف، اشتباك، أبوة، عمل أكثر، صعود، تربع على القمة، ثم سقوط حر، آه ثم آه، دم وجع دمع، راحة، وقفة، نقاهة، تسلق، تمسُك، تنفس عميق، مشيب خفيف، هبوط هبوط هبوط، سقوط، وقوع، رقود بلا حراك، أنا ظل في الظل ونحت في الماء وخط في الهواء.
يسير المرء للأمام ليكتملَ عامٌ آخر من حياته، فتتسع المسافة خلف ظهره بما يزيد احتمالية الخطر، يجلس بجانبي أخيرا، يهدأ الهدوء، نظرات مضطربة ممن حولي، بخلافهم لا أشعر بالاضطراب، منذ سنين وقد كففت عن الشعور بالدهشة والصدمة، طوبى لهم، طوبى لمن يشهقون اندهاشًا يتأوهون تعجبًا يُصْدمون ذهولا، لا تهمني نظراتهم، لا أعير همهماتهم بالي، أرفض أن تتحول ساحة نومي إلى مسرح للعبث،  ابني وحده من وددت احتضانه الآن، لكن يبدو أن النهوض ممنوع، يحجب مزيدا من الضوء بعباءته، رغم أنه يلفني الآن أشعر بالبرد، لكن اختفت أصوات الضوضاء، ألمح حركات مشوشة من خلف ردائه، لا أعيرها انتباهي، أخيرا زارني، استعطفته كثيرا فعطف علي، رجوته فلبى، الآن أرى أبي بوضوح، أبي الذي في السماء، الآن يتسلل الغروب، دعوه يحمل روحي، لأذهب مع بقية باقية من شعاع النور الأخير، فلتجعلوا تذكرة ذهابي بلا رجوع."
في عمر الرابعة والثلاثين زائد شهر أعلن دون خزيان تقلدي لمراتب الهزيمة كافة، وتقبلي لأوسمة الانكسار، وتقلدي نياشين الاندحار الذاتي، جثث جيشي تراكمت في أراضي معاركي، قبلما أحارب، فلم أجد داعيا لارتداء ثياب الحرب ودرعها، لم أحقق شيئا في ثلاثة وثلاثين عاما، ولم أحقق في الرابع كذلك، منذ يونيو لم أكتب منشورا على حساب تواصل اجتماعي، وكانت خطوة رائعة، أشغل نفسي بأطروحة الدكتوراة مجبرا، وبوظيفة في الصحافة باختياري، وكتابات أدبية لا أدري لم تُلح لتتراص أمامي فأدونها تخلصا من إلحاحها. الهاتف مغلق أغلب الأوقات، وباب السماء أحسبه لم يغلق بعد في وجهي، يناديني الهدوء وأناجيه، روحي اعتلاها الصدأ، وشاخت أطراف أحلام كانت تظن سذاجة أن أوانها قد حان أو سيأتي، لكن موتها في مهدها ربما ذلك أفضل، وحقيق بي أن أغطيها بهدوء، قبلما تلثهم جبينها جوارح الزمن.

أرض


محمد عبد الدايم. 

No comments:

Post a Comment