اثنا عشر عامًا
أبحث في وجه العالم عن وجه أبِي، اثنا عشر عامًا أفتش في أدراجي وأنفض ظلي، أتطلع
إلى أوراق قديمة وصور، أقبض على حقيبة سامسونايت، أتفحص ساعةً وقلمًا، أجندة
حسابات، منديلَ قماش، قبعة صيف، شماعة ملابس، مجموعة مفكات، أدقق في آثار مطرقة
على الحائط، أسرح في خطوط ملونة على نافذة، بنِيّة حمام من الفخار، إطار داخلي
لعجلة دراجة ومنفاخ، أتذكر تكشيرة ترتسم على جبين، وابتسامة خاطفة تمر على عجل،
أنظر في عيني أخت، ومُحيا عم، وتجاعيد وجه أمي، كل تفصيل له حكاية، وكل حكاية لها
بطل، وكل أبطالي يتجسدون في روح أبي.
أبي ليس بطلًا
في أسطورة قديمة أو حكاية شعبية، ليس بوذا أو كونفوشيوس أو غاندي أو مانديلا أو
مارتن لوثر، ليس موسى ليس يسوع ليس ابن الخطاب أو ابن سينا، لا يتغنون باسمه في
موال، لا يذكرونه في ترنيمة، لا يتمسحون بقبره كأحد الأولياء، كان رجلًا عاديًا،
ليس مشهورًا، ليس نبيًا؛ لكنه حمل لي رسالة من الرب، ليس نيوتن؛ لكنه عالِم اكتشف
جاذبية حركتني في مدارها، ليس جيفارا؛ لكنه حارب من أجلي وسلاحه كان حياته، ليس
أديسون؛ لكنه أضاء لي ظلمة فرشها العالم أمام ناظريّ، ليس بتهوفن؛ لكنه عزف لي
مقطوعات على أوتار من نسائل روحه، ليس اسمه محفورًا بأكثر من لغة على حائط، أو
منقوشًا على حجر أساس مستشفى كبير، أو هيئته في تمثال بميدان واسع، أو مسيرته في
كتب تاريخية، لا تعرفه البشرية، ولا يعني لها شيئًا، سوى أنه في التعداد العام للراحلين،
ويتحولون إلى تراب، لكنه أبي، ويعني لي كل
شيء، وهذا يكفيني، أتيمم بترابه لأطهُر، وأتدثر بطيفه لأصفو.
فتحت لي أمي
دولابه، أهدتني عباءته وجلبابه وقميصه وبزته ووشاحه، أرتدي ربطة عنقه التي ظهر بها
في صور زفافه، أعيش في جلبابه، أتبع عبير طيفه، أناجيه في سري، أعلق صورته دون
شريط أسود على الحائط، بجانب مقاطع من قصيدة نزار "أمات أبوك" بمفتتحها:
"ضلال! أنا لا يموت أبي".
اثنا عشر عامًا،
في مثل هذا اليوم أو سابقه، لا أتذكر هل أسلم روحه في الثانية عشرة إلا ربع بالأمس
في الثالث والعشرين، أو وربع صباحًا في الرابع والعشرين، لا يعنيني أن أتذكر، لكني
ما زلت أرقبه وهو يسترخى على مقعده بعد معاناة لعشرين عامًا مع الألم تمخضت عنها بسمة
صامتة تخط رسالة أخيرة: "ها أنا ذا أتقبل ما أخذت وأُقدم ما لدي وأُقبل على
ما هو آت فاقبلني يا الله، خذني إليك راضيًا عني".
لا أحتضنك يا والدي، كلما رجعت إلى بيتنا، كلما
كبرتَ عامًا في أغسطس، أو كبرتُ عامًا في يوليو، كلما رحلتَ في إبريل كل عام، أو
وقفت أمام شاهد قبرك، لا أحتضنك كلما بكيتُ وحدي ليلًا، ولا تضحك دموعي وهي تنزلق
على صدرك.
أنا لا أرثي
أبي، قرأت آلافًا من سطور الرثاء، شعرًا ونثرًا، لم أفهم حزني عليه، لم أقدر على
كتابة حرف، رغم أني رثيت صديقي المقرب، ألصقت اسم أبي بجانب اسمي، على كتبي، في
توقيعي، في عملي، في مقالاتي وتقاريري، في حسابات التواصل الاجتماعي، وهذا بالغ ما
استطعت إلى الآن، على كلٍ؛ لست كاتبًا معروفًا، لست شاعرًا أو أديبًا، لست مؤرخًا
يحكي مسيرة بطل مجهول، فلا حِمل عليّ إن فشلت، ولا إثم إن استعصى الوصف على
الكلمات، واستعصت الكلمات على قريحتي وقلمي ونقراتي على الحاسوب.
اثنا عشر عامًا
أفكر في معنى الأب، أربعة أعوام مرت منذ أن أصبحت أبًا، بيني وبين معنى الأب فراسخ
لم تقل قيد أنملة، فكيف أرثي أبي وأنا لا أعرف له وصفًا، ولا أرى له شبهًا، كيف
والزمن متوقف عند مشاهد متقطعة يلحمها الحنين، لا تخلو من صورته من صوته من نظرته
من رائحته؟! اثنا عشر عامًا أتدبر، في معنى الأب كي أكتبه، ولم أنتبه إلى ضرورة
معرفة معنى الحزن على الأب كعتبة لكتابة سطور رثاء تليق بحجم الحزن وحجم الأب.
قبيل رحلته إلى
السماء؛ رفض أبي أن أُقبِل يده، ولو لمرة أولى وأخيرة، وأوصاني بأمي، حينها علمت،
وشعرت بفزعٍ أكبر، يلقي بظلاله أمامي إلى اليوم، مع كل خطوة أخطوها يلازمني، مع كل
جلسة بمعية وحدتي، أو مع آخرين، وظل الفزع يصارعه ظل أبي، فأقف مشدوهًا أرقب
المعركة.
أقف وحدي
أمام المرآة
أبحث عن شبه
منه
أغسل جيدًا
لعل ملامحي
تخفي
والدًا كأبي
الذي تصعدت
روحه
فأكحتها لتعترف
بما أريد أن
يظهر
محيا أبي على
وجهي
كلما سألني
ابني
-
من هذا في الصورة
أخبره بأنه أبي؛
جده عبده
-
"وأين أبوك الآن"
هو في السماء
-
ماذا يفعل؟
عند الله في
الأعلى
-
الله الذي يحرك هذه السحابة
نعم
-
ولماذا صعد أبوك عند السحابة
لأن الله أراد
هذا
وإذا أراد
شيئًا كان
-
ومتى ستصعد إلى أبيك
قريبًا يا ابني
عما قريب
قريب جدًا
فقط أرجو
أن يفسح لي
الله بجانبه.
#أبو_إياس
في ذكرى رحيل
عبد الدايم هندام (3/8/ 1955 – 24/ 4/ 2008)
رمضان كريم يا
أبي
#حدث_في_إبريل
24
No comments:
Post a Comment