كلما
تأملت في التجربة الماليزية أشعر بالأمل حينا، وبالحسرة أحيانا أخرى، فهذه
الدولة تبلغ مساحتها ثلث مساحة مصر، ويبلغ تعداد سكانها ربع عدد المصريين
تقريبا، ولكن أين ماليزيا، وأين مصر؟!
لا
يمكن بالطبع الحديث عن النموذج الماليزي في مقال أو عدة مقالات، ولكني أضع
أمام القارئ بعض النقاط التي ربما يعرفها، والتي جعلت من هذه الدولة
الصغيرة نمِرا يهابه الكثيرون، فقد أصبحت ماليزيا إبّان عهد "مهاتير محمد"
دولة رائدة تتحكم بمصيرها بسواعد أبنائها.
قرأتُ
للدكتورة "نعمت مشهور" أستاذ الاقتصاد الإسلامي بكلية التجارة جامعة
الأزهر التي رصدت بعضا من أسباب النهضة التنموية الماليزية، وحددت مجموعة
من العوامل التي ساعدت على نجاح تجربة ماليزيا، وتمثلت في:
-
المناخ السياسي لدولة ماليزيا يمثل حالة خاصة بين جيرانها، بل بين الكثير
من الدول النامية، حيث يتميز بتهيئة الظروف الملائمة للإسراع بالتنمية
الاقتصادية، وذلك أن ماليزيا لم تتعرض لاستيلاء العسكريين على السلطة.
(ولننظر إلى حالنا الآن وفي الماضي)
-
يتم اتخاذ القرارات دائماً من خلال المفاوضات المستمرة بين الأحزاب
السياسية القائمة على أسس عرقية، ما جعل سياسة ماليزيا توصف بأنها تتميز
بأنها ديمقراطية في جميع الأحوال. (ذلك أن ماليزيا دولة تتعدد فيها العقائد
بشكل كبير حيث الإسلام دين الأغلبية، والبوذية، والمسيحية، والبوذية،
والكونفوشية، والطاوية والإحيائية والسيخية، إضافة إلى الملحدين، ولا نسمع
عن حوادث فتنة طائفية يوميا مثلما نجد في مصر بين مسلمين ومسيحيين فقط)
-
رفض الحكومة الماليزية تخفيض النفقات المخصصة لمشروعات البنية الأساسية،
لذا قد ارتفع ترتيب ماليزيا لتصبح ضمن دول الاقتصاد الخمس الأولى في العالم
في مجال قوة الاقتصاد المحلي.
- اهتمام ماليزيا بتحسين المؤشرات الاجتماعية لرأس المال البشري، من خلال تحسين الأحوال المعيشية والتعليمية والصحية للسكان .
-
اعتماد ماليزيا بدرجة كبيرة على الموارد الداخلية في توفير رؤوس الأموال
اللازمة لتمويل الاستثمارات (مع الأخذ في الاعتبار أن موارد ماليزيا لا
تساوي شيئا أمام موارد مصر المهولة والتي نتحسر عليها يوميا ونبيعها بأبخس
الأثمان).
رفعت ماليزيا شعار النمو والتحديث والتصنيع اعتمادا على الذات، مع الأخذ
في الاعتبار الوضع السياسي المستقر القائم على التعددية الحزبية، ومدنية
الدولة، وكانت كلمة السر في النهوض بالدولة التي تحررت عام 1958م هي
"الضمير الشعبي".
في طفولتنا تعلمنا بالمرحلة الابتدائية أن مصر تقع في قلب العالم، وهو
موقع متميز، تطل على بحرين، ويشق أرضها نهر عظيم، تمتلك من الثروات
والموارد الطبيعية ما لا تمتلكه الكثير من الدول العظمى، تعلمنا الكثير،
والآن نبكي على اللبن المسكوب.
هذه هي ماليزيا المحتلة سابقا متعددة العقائد والأعراق صغيرة المساحة
فقيرة الموارد، وهذه هي مصر الحرة، مصر التحرير، منبت الحضارة، تنعي حالها
للزمان، بعدما جرفها من لا يستحقون العيش فيها، مصر التي يتحكم العسكر في
مقدراتها الاقتصادية بنسبة تزيد على الثلث، مصر التي تمتلك ثروة بشرية
تستطيع أن تبني وطنا من الصفر.
إذا كنا نتمنى أن نرى مصر دولة عالم أول اقتصاديا فيجب أولا أن نقيم دولة
سياسية مدنية قائمة على التعايش المشترك، قائمة على العدل الاجتماعي،
والوسطية الدينية، قائمة على الضمير الإنساني، بعيدا عن الشوفينية الدينية
أو السياسية أو العرقية، بعيدا عن التخوين والتشكيك، بعيدا عن الجعجعة
البرلمانية والسفسطة الإعلامية والفوضى السياسية.
إذا
لم نستفد بالثورة، إذا لم نستفد بحيوية الشباب وخبرة الشيوخ، وتركنا الوطن
فريسة للصراعات الحمقاء، إذا ألقينا أنفسنا في أحضان الجهلاء، فلن نتقدم
قيد أنملة، بل سنتراجع حتى نسقط من فوق منحدر التاريخ، مصر دولة عالم أول
اقتصاديا إذا أصبحت دولة مستقرة سياسيا واجتماعيا ودينيا، إذا لفظنا
الجهالة وقمنا بثورة التنوير.
منشور في موثع قناة نريد:
No comments:
Post a Comment