منشور في موقع قناة نريد:
ترفع
"نريد" في مسابقتها الحالية شعار"الشعب يريد مصر دولة عالم
أول"، وهو شعار حالم ونبيل بالتأكيد، لكن لابد من الوقوف عند مكوناته
ودلالاته: الشعب، الإرادة، التغيير، الوطن، والعالم الأول، وهو دلالة على رغبة
الشعب في الانتقال بوطنهم مصر من دولة متأخرة في زمرة العالم الثالث إلى دولة
متقدمة في مصاف العالم الأول، وقد نظر الكثيرون منا إلى دول كانت لها تجارب مشابهة،
ثم انتقلت بها شعوبها إلى موقع آخر على الخريطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية
العالمية، وتركزت الأنظار على تركيا وماليزيا بشكل خاص، كونهما دولتين تحملان
كثيرا من نقاط التماس مع مصر، كالهوية الدينية، والخلفية الاجتماعية،والقدرة
البشرية، وبالطبع يعتبر البعض أن نموذج رومانيا غير بعيد عن الأذهان، بل وتتطابق
التجربة الثورية الرومانية في كثير من التفاصيل مع نظيرتها المصرية تطابقا يبعث
على القلق، ويدعو للاحتراز كي لا يتكرر النموذج الأوكراني بحذافيره في مصر.
وتتفق كثير من
الآراء على ضرورة الاسترشاد بكل التجارب المعاصرة في مجالات السياسة والاقتصاد
وغيرها، ولكن ينبغي أولا وقبل كل شيء أن نتوقف عند نقطة بالغة الأهمية، يعتمد عليها
بشكل أساسي مستقبل مصر بعد الثورة، وهي القدرة على الاستماع، القدرة على احترام
رأي الآخر، القدرة على الحوار، والتي أعتبرها حجر الزاوية الذي بدونه لا نستطيع أن
نؤسس مصرا جديدة تزاحم العالم الأول.
ربما نحن من أكثر
الأمم التي حثت على فضيلة الصمت، والاستماع للآخر، والحوار الهادئ، غير أننافي نفس
الوقت من أكثر الأمم استخفافا بهذه المُثل، وتحقيرا لها ، وما يشعرني بالأسى أننا
نرفض بكل شدة ما صرّح به نائب المخلوع منذ عام وبضعة أيام لإحدى وكالات الأنباء
العالمية بقوله :" إن المصريين غير مهيئين للديمقراطية في الوقت
الحالي"، في الوقت الذي نؤكد فيه صحة مقولته كل يوم ، فلابد أن نعترف بأننا
نُحقِّر أحد مبادئ الديمقراطية، وهو الحوار، وتقبُّل الآخر.
أشاهد ــ كغيري
ــ يوميا كثيرا من البرامج الحوارية المسماة "توك شوز" فأجد معظمها تحول
إلى عروض سيئة ، فالمفترض أن الهدف الرئيسي من هذه البرامج أن يتحاور الضيف مع
المُقدم، أو الضيوف مع بعضهم البعض، لكن المسألة تتحول إلى أن يستحوذ مُقدم
البرنامج على فرصة الكلام كاملة، ليستمع الضيف، أو أن يتصارع الضيوف معا في مشادات
كلامية، ربما تتحول إلى التشابك اللفظي أو الجسدي البذيء.
ما نشاهده في
هذه العروض على شاشة التلفاز نسخة مما نراه على أصعدة مختلفة في مصر، في الشارع،
في السوق، في المواصلات، في المدرسة، في الجامعة، في الحلقات النقاشية، في ميادين
الثورة، وأوساط الثورة المضادة، ولا عجب أن تنتقل الآفة إلى البرلمان الذي اختار
الشعب نوابه من بينهم.
دون الخوض في
نوعية القضايا ومضمون المناقشات؛ فالمتابع لجلسات مجلس الشعب الأول بعد الثورة يرى
المناقشات توشك على أن تتحول إلى معارك، وإذا استمرت على هذه الشاكلة فستتحول دون شك
إلى مهزلة أخلاقية.
يجب أن نعترف
أن نواب مجلس الشعب هم مواطنون مصريون اختارهم ناخبون مصريون، وهؤلاء وأولئك
يحملون بالطبيعة سمات متطابقة، لعل من أكثرها سوءا وجهلا ازدراء الحوار الهادئ،
لقد استبشرنا خيرا بعد أن جرت أول انتخابات نزيهة ـ أو هكذا يبدو ـ ولكن الكثيرين
منا انتابهم أسى شديدٌ بعد مشاهدة جلسات برلمان ما بعد الثورة، حيث بدا الأمر
مُحبطا إلى حد كبير، لأننا نرى أعضاء البرلمان منقسمين إلى فرق وجماعات متنافرة
ومتضادة، الاختلاف الفكري والأيديولوجي أمر طبيعي ومنطقي، وظاهرة عالمية وإنسانية،
وقد جعلنا الله شعوبا وقبائل لنتعارف، لكن أن يتحول الأمر على المستوى الإقليمي
إلى هذا الشكل الباعث على الحسرة؛ فهو ما يعطي مؤشرا سلبيا على مستقبل مصر بعد
الثورة، فللأسف ترى نوابا يقاطعون دون إذن زميلهم الذي يتحدث، يهاجمون غيرهم
بضراوة، يتحدث الكثيرون دون حق الحديث، يقف هذا ليُدحض رأي ذاك، بل ويتهمه بالكذب
والافتراء والعمالة، كل هذا في وجود رئيس للمجلس، لم يسع جاهدا ـ في رأيي ـ للحد
من هذه المهزلة.
دون الخوض في
تفاصيل ما يجري ونشاهده يوميا، ودون ذكر أسماء للأعضاء؛ يلمس الكثيرون من اللأسف
غياب آلية الحوار الهادئ المحترم بين أعضاء البرلمان، لأنهم قبل أن يحصلوا على
العضوية هم مواطنون في الأساس يحملون نفس الصفة شأنهم شأن الكثيرين من المصريين
الذين لا يحترمون الحوار للأسف، وهذه حقيقة مؤسفة يجب أن نواجهها بعلاج، بدلا من
إنكارها فتتفاقم الكارثة.
لابد أن
نعترف بأننا منقسمون أيديولوجيا، منقسمون ولسنا مختلفين فقط، يجب أن نعترف أن الكثيرين
منا يضمرون حقدا وعداوة مبطنة لآخرين، يجب أن نعترف أن المنافسة البرلمانية داخل
مجلس الشعب تستند إلى اختلافات عقائدية وأيديولوجية شديدة، وكل طرف على يقين بصحة
موقفه وخطأ نظيره، ولكن في المقابل على الجميع أن يسعوا لتقنين الخلاف، ومحاولة
انتهاج أسلوب محترم للحوار، فالآخر الذي أحاوره إنسان مثلي، ولو اختلفت ديانته، أو
ثقافته، أو أيديولوجيته، أو بيئته.
ثقافة الحوار
غائبة بلا شك في مصر، وما يجري في جلسات مجلس الشعب أعتبره نكسة حضارية كبيرة،
لكنها للأسف ليست وليدة الخلاف السياسي بين الأكثرية والأقلية في البرلمان، ولكنها
متأصلة إلى حد كبير في العقلية المصرية، والعربية كذلك، وهذا ما نلمسه في كافة
المستويات، العليا والدنيا، بين النُخب والعوام، في أوساط المُثقفين والجاهلين،
بين المُتعلمين والأميين، والمتدينين والملحدين، نحن ـ بكل صراحة ـ أمة الصوت
العالي والجعجعة والسفسطة الكلامية.
لقد كسرت
الثورة حاجز الخوف في النفوس، لكن الكثيرين اعتبروا هذا تصريحا بازدراء قواعد
الحوار، صار الصوت العالي شعارا، أصبح اتهام الآخر عقيدة، أضحى الاشتباك اللفظي
عادة.
يجب أن نبدأ
من الصفر في تأصيل فضيلة الحوار، بداية من الأسرة مرورا بالمدرسة والجامعة والمسجد
والكنيسة والشارع والسوق والتجمعات الثقافية والإعلامية والسياسية، لا يصح أن يكون
نتاج مصر بعد الثورة نائبا برلمانيا عالي الصوت جهول، يقاطع زميله، يلوح له بيده،
يشكك في نزاهته، يدحض رأيه، ويبخس حقه في الكلام والتعبير.
يجب أن تتحمل
الأحزاب مسئولياتها في تثقيف أعضائها البرلمانيين، بدلا من التحريض على الآخر يجب
أن تشدد على المنتسبين لها بضرورة احترام الآخر، ولو شكليا، ولو ظاهريا، لكن أن
نشاهد عروض الكوميديا السوداء في مجلس الشعب؛ ليتحول البرلمان إلى ساحة للعراك
اللفظي القابل للتطور لما هو أسوأ؛ ليصبح أقرب لتجمعات فوضوية منها إلى مجلس
مُوقر؛ فهذا ما يصيب الثورة في مقتل، ويصيب الأمة بمرض الهمجية التي تقف عثرة أمام
انتقالنا إلى دول العالم الأول. فأساس البناء هو الحوار، والتقارب، واحتراما لآخر،
فدعونا لا نشوه حضارتنا، لا نشوه تعاليم أدياننا، لا نشوه ثورتنا.
No comments:
Post a Comment