Friday, May 26, 2017

من المجموعة القصصية كراس تسعة أسطر

قصتان من مجموعة "كراس تسعة أسطر" الفائزة بجائزة المركز الثالث لمسابقة أخبار الأدب في دورتها الثالثة، القصتان منشورتان في العدد 1244 بتاريخ 28 مايو 2017:

ألبوم صور

في نهاية النهار، وبعيد آذان المغرب، قبلما تظلم السماء إلا من نجومها وقمرها؛ استعدت الأمهات للرحيل، وجهزت كل منهن أطفالها، أخيرا بعد عناء مع الأشقياء منهم والباكين، والمتسللين تحت الأسرة وفي الشرفة، المتشبثين بالبقاء؛ وقف الجميع استعدادا لمغادرة البيت، قبَّل كلٌ منهم، الكبير والصغير، الأب والأم والطفل، يدَ صاحبة البيت، جدة الأطفال.
بقيت العجوز بمفردها في غرفتها، أغمضت عينيها قليلا وعادت بذاكرتها للوراء، إلى زمان ليس كالزمان، إلى عالم كانت الأحلام فيه تُلون الخيال بألوان الربيع، كان النور يملأ القلوب رغم ضعف الكهرباء، الآن يسيطر ظلام القلوب الذي لا يحرقه النور بوهجه، ولا يبتسم أمام وميض العدسات، إنها أيام المشيب والتجاعيد، والتقوقع بانتظار أن يحين الدور لتلتحق بهؤلاء الذين اجتمعت معهم في ألبومات الصور.
فوق الكومودينو بجانب الفراش تراصت كثير من علب الحبوب، ألقت نظرة عليها، ثم حولت نظرها إلى الدرج، ثم مدت يدها المرتعشة التي تبرز منها العروق، وفتحت الدرج وأخرجت ألبوم صور قديم، تأملت غلافه هنيهة، ثم فتحته بعدما تعثرت يدها في عويناتها سريعًا هذه المرة ووضعتها فوق عينيها، تأملت صورة طفلة تتأرجح في فناء خلفي لمنزل كبير، وصورة تبدو للطفلة نفسها بعد سنوات وهي مرتدية مريول مدرسة لا يُعرف لونه تحديدا لأن الصورة بالأبيض والأسود، وفي يدها حقيبة صغيرة بينما تمسك يد امرأة ما، ربما تكون أمها، وشعرها مربوط ضفيرتين على جانبي رأسها، وقلبت في الألبوم حتى وصلت لصورة تجمع بضع فتيات في سن المراهقة أو أوائل الشباب، يبتسمن جميعا أمام الكاميرا، وقد زينت الألوان ملابسهن في الصورة هذه المرة، يبدو أنهن كن في نزهة ما والتقط أحد لهن صورة تذكارية جماعية تبدو من خلفهما أشجار كبيرة وبجانبهن مجموعات أخرى من الفتيات والشباب، وإحداهن ينفتح ثغرها بابتسامة تُظهر صفين من الأسنان المتساوية البيضاء، وترتدي جونلة زرقاء وقميصا ورديا.
قلبت في الألبوم حتى وصلت لصورة تجمع الشابة ذات القميص الوردي مع شاب كثيف الشعر والشارب، ترتدي هي فستانا أبيض من الدانتيل، ويرتدي هو بزة سوداء مع ربطة عنق عريضة، ظلت تقلب وتقرب عينيها أكثر فأكثر لتملك عيناها الضعيفتان ملامح الصور، ثم أغلقت الألبوم بعد أن وصلت لنهايته، ووضعت كف يدها فوقه وأغمضت عينيها لتريحهما أو لتعود ببقايا ذاكرتها للوراء.
لا يحتفظ العجائز بالذكريات على الحاسوب، بل يحفرونها على جدران القلوب، ويكتبونها على أوراق تعجز وتتجعد وتصفر مثلهم، ويحفظونها في ألبومات صور، يطالعون فيها ماضيهم إن بقيت عيونهم ترى، يتذكرون ما فات إن لم يصبهم النسيان، يحنون إلى لحظاتها إن جاز لهم الحنين.
فتحت عينيها مجددا بعدما أعادت العوينات إلى موضعها على الكومودينو، آملة ألا تنسى مكانها مجددا، استجمعت قوتها الخائرة، نهضت من الفراش، رغم طقطقة فقرات عمود ظهرها، نزلت إلى الأسفل، جذبت حقيبة جلدية مهترئة الأطراف، فتحتها بيدين مرتعشتين، وأخرجت جونلة زرقاء وقميصًا ورديا، ما تزال رائحة النفتالين عالقة بهما، لم تعد عيناها الضعيفتان تلمحان القطْع في جانب الجونلة، نهضت بصعوبة وجلست على جانب الفراش تتلاحق أنفاسها الواهنة، ثم قامت محدودبة واستدارت لتواجه المرآة، تحاكي الصورة الجماعية في الألبوم مع بعض الاختلافات في التفاصيل، لون الشعر، تجاعيد الوجه، هزال الثديين، ترهل البطن، ارتعاش اليدين، لكن حتى مع سقوط الأسنان حاولت إعادة تمثيل الابتسامة التي كانت في الصورة.  

كعك الصباح
تنهدت وهي تغلق حقيبته بعد أن وضعت فيها متعلقاته، التفتت إليه وقد أعطاها ظهره وهو متكئ على جانب السرير ينتقل من قناة لأخرى في التلفاز، اقتربت الساعة من منتصف الليل، ولم يتبق سوى سويعات قبل أن يحمل الحقيبة ويتجه للمطار في رحلة عمل قصيرة كما أخبرها، هي الأولى له.
ليس جديدا أن يغيب يومًا أو اثنين، لطبيعة عمله كمهندس يتنقل من آن لآخر بين مواقع مختلفة تدشن فيها الشركة مشروعات لها، لكنها المرة الأولى التي يرحل فيها خارج البلاد، والمرة الثانية التي يصعد فيها على متن طائرة، كانت معه في الأولى وهما مسافريْن لتمضية شهر العسل على الجانب الآخر من البحر المتوسط، ومضى على هذه الرحلة ما يقرب من ست سنوات، شهدت علاقتهما صعودًا وهبوطًا في منحنى حميمية الزواج،  ولم تشهد بعد ضيفًا ثالثًا يسكن الغرفة الأخرى التي لم تتأثث بعد.
دلفت في خفة إلى جانبها من السرير بجواره، تراودها هواجس شتى منذ أن أخبرها بأمر السفر، التفتت إليه وظهره إليها، منشغلا بجزء من مباراة كرة مُعادة، تخشى أن يغفو قبلها، أن تبقى وحدها مُعلقةً في الظلام، في ليلة السفر التي لم تشهد سماؤها حضورًا للقمر، تخشى أن يستيقظ قبلها فلا يوقظها ويحمل حقيبته في هدوء.
 تخشى أن تكون تذكرة الطائرة بلا عودة، أو أن تفوته – قاصدا-  رحلة العودة، تخشى أن تغريه امرأةٌ ما، عامرة الصدر، تجذبه تلك الثدياء إلى أقاليمها، فينسى في حضنها صدرًا كان فيما مضى ناهدا، كما نسي أبوها في ترحاله صدر أمها الحنون، تراودها صورته وهو ينجرف خلف أخرى مشدودة الأرداف، تتهادى بثقةٍ خطواتُها رغم ارتفاع كعب الحذاء، وكيف لا ينجذب لمثل هذه؟! وهو رقيق الحس يُعجب بالقوام المشدود، تتذكر كيف كان يتغزل في قوامها قبل وبُعيد الزواج، تراه يجلس بجانبها على مصطبة بحديقة غنّاء، تجاور مصاطب أخرى اصطف عليها عشاق وأصدقاء وأمهات مع أطفالهن، تقترب منه، تلتصق به، وأخيرا تجلس فوق رجليه تاركة مكانها بجانبه لحسرة هذه التي تتطلع لصورتهما في مخيلتها.
تخشى أن يغيب فيُطيل، أن تمل الانتظار وهي ملول، أن تلملم شعرها الطويل كلياليها، وتجمع شتات وحدتها وترحل، تهجره وتضطر إلى الرحيل، أو أن تعتاد غيابه فلا تقطع شرايين الوقت لتنهي عذاب الترقب.
تخشى بعد هذا كله أن يعود، بعد المُر وطعم الخوف في فمها لا تتذوق سواه في غيابه، وحين يعود تلد له طفلًا تمناه منذ سنوات، فجاء أخيرًا ولدًا دميمًا أو معلولا، جسدها الحزين لم يخر بالولادة، تخشى أن تسود رائحة القلق أو الموت، أن يثور الدم حتى يطفح، أن يجف العشق فتتعفن حروف الحب ولا تثمر الشجرة فتنقلع، تخشى أن تحرمها منعطفات رحلته من جلسة الشاي مع الكعك في الصباحات، ولا تجد من يمسح السكر المطحون عن شفتيها، تخشى أن يلتفت إليها الآن بعد إغلاق التلفاز ويقول لها "تصبحين على خير" فحسب، دون إضافات مثلما يفعل مؤخرا، ثم يغمض عينيه.

No comments:

Post a Comment