Sunday, October 18, 2015

بونوجرافيا الطعن


سياسة

هآرتس: بورنوجرافيا الطعن


هآرتس: أريانا مِلميد: بورنوجرافيا الطعن


بورنو جرافيا الطعن
أريانا مِلَميد –  هآرتس الإسرائيلية
ترجمهُ عن العبرية: محمد عبد الدايم
منشور على موقع زحمة دوت كوم اضغط هنا للانتقال.

    الموضع الدقيق لكل طعنة بمفك براغي، تقارير مثيرة للمارة، بيانات متكررة ومختلفة لمسئولي نجمة داود الحمراء واتحاد الإنقاذ والإغاثة، قصة أول مُسعف وصل، بث متكرر لإدارة وحدة الرضوض، بيانات فارغة للجميع، من قائد الميدان وحتى وزير الدفاع، الإعلام المذاع والرقمي يعملان بجهد متواصل ليقدما للمستهلك كل المعلومات، حتى عمليات رتق الطحال أو الأمعاء لآخر ضحية طعن. وتراكم تأثير مواصلة المشاهدة والاستماع للتقارير- ومن لا يشاهد أو يستمع في هذه الأيام الصعبة- هو حِمل بورنوجرافي زائد لتفاصيل لا تُطاق.
    هل المعرفة قوة؟ ليس دائما. خمس نشرات عاجلة في البث، على مدى ساعة واحدة، لوصف حادثة طعن واحدة، لن تضيف شيئا أو نصف شيء للمشاهدين الأسرى أمام الشاشة: على العكس. فالتقارير المسعورة من شأنها فقط أن تدمر، كما يفسر باحثون في مجالات الصحة النفسية: منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة؛ أجُريت عشرات الأبحاث التي أثبتت أن العرض المكثف لحوادث الإرهاب بالصوت والصورة يربك هرمون الفزع لدى الخاضعين للفحص، ويعرضهم لخطر متزايد من ردود فعل “ما بعد الصدمة”. فبدلا من أن يمنحهم الأدوات للتعاطي مع الأوضاع المقلقة والمخيفة، يزيد لديهم نسبة الخوف فحسب.
للخوف نتائج ثانوية: الكراهية على سبيل المثال. التي تتوهج وتتقد حتى تصل لرغبة في الانتقام بداعي “الدفاع عن النفس” وهو ليس سوى إحباط مستمر، فالشاشات تمتلئ بمشاهد رعب، طيلة الوقت. ووسائل التواصل الاجتماعي تزيد الرعب وتنشره على أوسع نطاق، والمخ المُنهك يُطوِق نفسه أمام أفلام رعب في دائرة البث المتكرر، دون أن يدرك أنه قد مرت بالفعل أيام أسوأ من هذه، ضحاياها أكثر، وإحساسنا بالخوف فيها كان أقل.
   من يقدم المعرفة الإباحية، والتكرار اللانهائي لتفاصيل الأحداث والانشغال الحصري للإعلام بكل حادثة كهذه؟
إنهم فقط من يرغبون في إنتاج مسلسل يومي قائم على الخوف، ومبرراتهم معهم: جمهور مرعوب هو جمهور أسير وهم أن القوة وحدها ومزيد من القوة سيحلان “المشكلة”. جمهور مرعوب يجنح للجمود والانضواء تحت شوكة “زعيم قوي”. و هذا ما يحدث حتى إذا لم يكن الإعلام راغبا في إدراك تأثير كهذا بالتقارير الكثيفة، والتاريخ زاخر بنماذج غير مداهنة أبدا للعلاقة بين الخوف والتخويف والنصر السياسي لليمين المتطرف.
    الصحفيون في إسرائيل جزء من الجمهور المرعوب، في ظروف غياب السلطة يخلقون أيضا لأنفسهم وهم التشبث بالواقع من خلال التقرير الدقيق والمفَصّل الذي ينجحون في إنتاجه سريعا، رغم المصاعب التقنية. هم أيضا يعرفون أنه في أيام كهذه تحارب وسائل الإعلام كلها من أجل وميض التقييم (الترافيك)، وللاعتداءات تقييم عال في إسرائيل، حتى أنه أكبر من برامج الواقع، فالخوف يسوِق كثيرا.
    حتى إذا لم يكن التحفظ ميزة إسرائيلية رائجة، فهو ضروري وبخاصة الاعتدال الإعلامي بالنسبة للواقع حاليا، فيمكن ويجب أن نطلبه من الصحفيين، ويمكن ويجب كذلك أن ندرك أن الإفراط في التقرير يؤذي كل من يدمنه، الصحة العقلية المدنية والسياسية والشخصية في هذه الأيام تبدأ بزر الإطفاء.

Sunday, October 04, 2015

السر

السر הסוד
من ديوان: أرتسينو ארצנו - وطننا 
صدر عام 2002


ترجمة: محمد عبد الدايم


"طالما أن قلبي

خزانة مكسورة؛

فسأأتمن أذنَ هذا الكوكب

على السر،

أُقَرِب شفتيَّ

نحو طبلة أذنِ

القارات الخمس

والقطبين،

وأهمس:

لا توجد امرأة

أكثر سواداً وبياضاً من زوجتي،

أكثر رشاقة وطولا،

ذات أطراف كالبجعة،

وثديين فاتنين،

ومؤخرة لدنة،

وفتحة فرجها

غضة ومتموجة،

ومهبلها قائم

دوراً فوق دور

من قطيفة

تقطر عسلاً،

حينما يلتصق فمي بسواد عينيها؛

أغرز الأشواق في بطنها،

وكواحلها البعيدة كالهند،

أيها العالم: يجب أن تهتم

بارتداء الفضاء

كما لو كان فانيلا مغسولة،

وأن تستمر العصافير في تمشيط

الشعر الأخضر فوق صدغك،

وأن تخوض الأسماك في ماء نظيف،

ويجول سعاة البريد دوماً ويطنطنون،

يجب أن تتأكد من سلامة الأرجوحة

التي يتأرجح بها سرى."

Monday, August 03, 2015

حساب النفس

مقال منشور على موقع قل، انقر هنا

من يحتاج حساب النفس؟
محمد عبد الدايم

     "دولة كاملة بحاجة لحساب نفس"
     كان هذا عنوان فقرة إخبارية على القناة الثانة الإسرائيلية الأسبوع الماضي، في أعقاب هجوم حريدي[1] متشدد على مسيرة الفخر بالقدس.
     أستهل بالمعطيات التي أدت لهذا العنوان:
     كل عام تقريبا يتجمع عدد كبير من المثليين في إسرائيل، ومن يتضامن مع ما يعتبرونه حقوقهم في التعايش والمساواة بكل أفراد المجتمع الإسرائيلي، هذا التجمع يُطلق عليه "مسيرة الفخر"، أي الفخر بمثليتهم لا إخفاؤها أو التستر عليها، وتتسم مسيرة الفخر بالسلمية مع الألوان المبهجة واللافتات المؤيدة والشعارات المناهضة لكبت المثليين إضافة للاستعراضات والمهرجانات الغنائية الراقصة.
مشهد من مسيرة الفخر السنوية

     إلى هنا والأمر طبيعي في دولة يسعى مواطنوها للحصول على حرياتهم كاملة، لكن إسرائيل في نفس الوقت تتألف من مجموعات عرقية وأيديولوجيات مختلفة أشد الاختلاف لأسباب معروفة راجعة لطبيعة تأسيسها وقيامها على أرض فلسطين، ومن ثم فلا غرو أن تجد كتلة الأصوليين المتدينين لها ثقل كبير في المجتمع الإسرائيلي على كافة الأصعدة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وبطبيعة الحال ترفض طوائف المتشددين (الحريديم) المثلية الجنسية رفضا تاما، وتقف ضد وجودهم وضد أي قانون يمنحهم حرية الارتباط والزواج بل والوجود على الأرض.
     خلال مسيرة الفخر التي جرت في القدس الأسبوع الماضي ظهر فجأة أحد المتشددين وقد حمل سكينا كبيرا وشرع بكل هدوء يطعن من حوله من المشاركين في المسيرة، فأصاب ستة منهم، اثنان حالتهم كانت خطيرة، حتى ماتت أحدهما يوم الأحد 2/ 8/ 2015 متأثرة بجراحها، وهي فتاة صغيرة تُدعى «شيرا بنكي» تبلغ 16 عاما، وبقية الإصابات بسيطة ومتوسطة.
المعتدي أثناء ارتكاب جريمته وفي الإطار صورة الفتاة التي لقيت مصرعها متأثرة بإصابتها 

     الملفت في الحادث أن المعتدي خرج لتوه من السجن منذ ثلاثة أسابيع فحسب، حيث كان يتلقى عقوبة السجن لنفس الجريمة منذ عقد، فقد نفذ المعتدي جريمة طعن مماثلة بحق مشاركين في مسيرة الفخر منذ عشر سنوات، وخرج من السجن ليكرر جريمته بكل هدوء، ويعلن بعد القبض عليه أنه لا يعترف بصلاحية المحكمة التي سيمثل أمامها.
ما بعد الحادث
     هزت الجريمة أركان إسرائيل من قمتها إلى قاعها، وقامت الدنيا ولم تقعد حتى هذه اللحظة، فأعلنت الحكومة الإسرائيلية على لسان رئيسها «نتنياهو» شخصيا استنكارها للحادث، كما أعربت عن تعازيها للضحايا، وأسفها على ما جرى، وأما عن رد فعل المجتمع الإسرائيلي فحدث ولا حرج، حالة صدمة شديدة وذهول واستنكار وغضب عارم في صفوف الإسرائيليين المؤيدين للحريات الخاصة، وعلى مستوى الإعلام الإسرائيلي كان هذا الحادث في صدارة المشهد بلا منازع.
أخبار صحفية وتقارير وتغطيات إعلامية مرئية ومسموعة ومكتوبة تتفاعل مع الحادث، واستجوابات لقادة الشرطة الحاليين والسابقين وأعضاء الكنيست والحكومة، وهجوم عارم على دولة رئيس الوزراء، ناهيك عن التحليلات الأمنية والنفسية والاجتماعية لأسباب وتداعيات هذا الحادث.
     في المقابل كتب أحد المتشددين الحريديم تعليقا على حسابه الخاص على فيسبوك يتضامن فيه مع ما ارتكبه قرينه بحق المشاركين في المسيرة، وقال فيما معناه: "طالما أنك انتويت القيام بنفس العمل مرة أخرى كان يجب عليك أن تركز لتقتل أيا من هؤلاء الشواذ الملعونين، بما أنك ستُسجن بالطبع وستطول مدة حبسك هذه المرة، وعلى كلٍ أتمنى أن يموت أي من المصابين جراء الحادث لتكون قد وُفقت في قتل أحدهم على الأقل"، وفي أقل من 24 ساعة تم القبض على المواطن كاتب هذا التعليق.
إلى هنا والأمر عادي بالنسبة لدولة تسعى جاهدة لاحترام حقوق مواطنيها في الحرية والأمن، حتى لو كانت السلطة السياسية ترفض الاعتراف بحرية المثليين في الارتباط القانوني، فلا تستطيع أن ترفض أو تمنع مسيراتهم واحتفالاتهم وإعلاناتهم، لأن هذا يندرج تحت بند الحرية الشخصية للمواطن في التظاهر والإضراب والاحتفال، مع احتواء المتشددين دينيا منهم ومناهضة أفكارهم الأصولية ضد مجتمعهم، بعيدا عن التفكير في حقوق الشعب الفلسطيني المقهور على مدى عقود طويلة.
     ما يلفت النظر هنا هو الاهتمام البالغ بروح الإنسان في إسرائيل، ووضع أمنه في صدارة الأولويات، إلى جانب المحافظة على حقوقه المدنية والشخصية، فمثلا تم إخفاء وجوه المصابين في المسيرة احتراما لحقوقهم وحرصا على عدم إيذاء مشاعر ذويهم ممن يتابعون أخبار الحادث في وسائل الإعلام، مع سرعة تواجد قوات الأمن في المكان والقبض على المعتدي دون الاعتداء عليه ضربا أو سبا، فكونه مجرما معتديا لا يجعله عرضة للتعذيب النفسي أو البدني على أيدي قوات الأمن، بل تم القبض عليه وتكبيله دون عنف، فأولا وأخيرا هذا مواطن له حقوق، وهذه دولة تطبق القانون على مواطنيها، ومحظور الاعتداء على أي منهم من قبل قوات الأمن.
     "دولة كاملة بحاجة لحساب نفس"، هالني عنوان الفقرة التحليلية على القناة الثانية الإسرائيلية، حادث كهذا نعتبره في بلادنا هزلا ولعبا، في الوقت الذي يتساقط فيه يوميا قتلى بالعشرات، وربما المئات، جراء اعتداءات بلطجة، أو وقائع ثأر، أو حوادث طرق، أو عمليات إرهابية، أو أخطاء طبية، أو تسمم، أو تدافع، أو حتى معالجة أمنية شديدة الوطء لإشكالية ما، في حين أنه إذا لقي مواطن إسرائيلي مصرعه جراء حادث سير تنقلب الدنيا وتصبح الدولة في حالة أشبه بالحداد.
عزيز المواطن المصري انظر إلى كم الضحايا الذي يتساقطون كل لحظة وتتشرب أرضنا دماءهم، انظر إلى صور الضحايا التي تسارع وسائل الإعلام بنشرها دون مراعاة لحقوق أصحابها أو مشاعر ذويهم، حتى المعتدي والمجرم من المفترض أن له حقوقا طالما لم تتم محاكمته، انظر إلى أولويات الأحداث التي تُنشر وتعرض في وسائل الإعلام، ليس افتتاح مشروع أو حفل كبير أو انتصار كروي أو تعيين مسئول ما أو إقالته أهم من خبر إصابة مواطن أو مقتله، المواطن أولا، الإنسان قبل كل شيء.
أي دولة تحترم مواطنيها تسعى أولا للحفاظ على كل قطرة دم تجري في شرايينهم، أي دولة تحترم حقوق الإنسان تحافظ على أمنه ومشاعره وحريته، أي دولة تقوم على أسس سليمة تقدس حرمة النفس البشرية، وفي الحالة الإسرائيلية هذا لا يتعارض مع ما ترتكبه إسرائيل مع الفلسطينيين، فواقع أن إسرائيل دولة ترتكب جرائم يومية بحق شعب أعزل مكلوم لا يتنافى مع واقع أنها دولة تسعى للحفاظ على روح كل مواطن إسرائيلي.
     أي الفريقين أحق بحساب النفس إذن؟!  



[1]  كلمة الحريديم ( החרדים) تعنى بالعربية : الأتقياء، أو المتقين، وهى تطلق على طائفة من المتدينين اليهود، التي تؤمن بأن التوراة كلام الله، وتؤمن بها إيماناً كاملاً كما أسلفنا الحديث، إضافة إلى التلمود وسائر الكتب الدينية الأخرى، ووصل ببعضهم التزمت إلى حد أنهم طالبوا بعدم تغيير الطريقة التي يرتدى بها اليهود ملابسهم، أو يقصوا بها شعرهم، ويدافع "الحريديم" عن كل المقولات اليهودية التقليدية والأساطير القديمة، فيؤمنون بعودة المسيح المخلص بشخصه، وكذلك بالعودة إلى فلسطين بمشيئة الرب وليس بحسب إرادة إنسانية، ومن هنا كان اختلافهم مع الصهيونية - باستثناء فريق منهم بات يُعرف بالصهيونية الدينية- وعدم انخراطهم في مؤسسات الدولة بعد قيام إسرائيل، إيماناً منهم بأنها تخالف مفهوم العودة الدينية إلى فلسطين في نظرهم، وهذه الطائفة يسميها البعض :" اليهود الأرثوذكس"، ولكن التعبير العربي الأدق لها هو الأصوليون اليهود.

Tuesday, June 09, 2015

على حدود المدينة



على حدود المدينة
طال نيتسان
ترجمة من العبرية: محمدعبد الدايم


على حدود المدينة ينبثق طريق
وعلى أطراف الطريق غابة
وفي نهاية الغابة سياج
ومن وراء السياج كوخ.

إذا أقامت الطفلة في الكوخ
الذي وراء السياج
الذي في نهاية الغابة
التي على أطراف الطريق
المنبثق من حدود المدينة
هل ستكون أكثر عزلة؟

القصيدة منشورةعلى موقع ليريكا، انقر هنا

طال نيتسان טל ניצן:

شاعرة ومحررة ومترجمة إسرائيلية، وُلدت في يافا، وترعرعت في بيونس آيرس ونيويورك، وتعيش حاليا في تل أبيب. أشرنا إلى كتابات سابقة لها على المدونة:

Sunday, June 07, 2015

سُكْر وإدمان

يتصاعد أمام عينيه

هواها،

كما يتطاير دخان

غليونه المنطفئ.

يستفيق من سكره

بحبها،

ولا يبقى لديه

غير هلاوس الخمر،

وألم مقيم بالأحشاء. 

غشاوة أمام ناظريه

حالت دون تذكرها،

ووجع في قلبه

لم يُنسه عهدها.

Tuesday, June 02, 2015

ويل للآباء وويل للأبناء

ويل للآباء وويل للأبناء
تأليف: مندلي موخير سفاريم
ترجمة وإعداد: محمد عبد الدايم



كان "ابن داﭬيد" و"يعقوب نوفيخ" صديقين مُجدين في الدراسة بـ"بيت مدراش هاربيم[1]"، وكانا رفيقين مخلصين منذ تعرفهما على بعضهما البعض، ولم يكن فرق بينهما، وكلاهما يساعد صديقه في وقت الشدة، وإن كانا متساويين في كل شيء بالمعرفة والموهبة، غير أنهما مختلفان في الأهواء، كلاهما يحب الإحسان ويبغي الخير، لكن "ابن داﭬيد" يفعل الخير من أجل الخير ذاته، لأنه شيء جميل وجدير أن نفعله، أما "يعقوب نوفيخ فينشد من وراء فعل الخير مصلحته أيضاً، "ابن داﭬيد" لا يبتغي لنفسه مجداً، هو متواضع، والناس جميعاً متساوون في نظره، سواء أغنياء أو فقراء، ويعقوب نوفيخ يتطلع ليكون بمصاف العظماء، يهوى التزلف إلى الأغنياء، ويدعي أنه منهم، وإذا كان كلاهما مختلف عن الآخر في الطباع، إلا أنهما ترافقا سوياً، وكانا صديقين متحابين، حتى بعد تخرجهما من "بيت هادمدراش" وأصبحا مُدرسيْن في مدارس "هاملخوت"، "ابن داﭬيد" في "كسلون"، و"يعقوب نوفيخ" في مدينة أخرى بعيدة عن "كسلون"، إلا أن المسافة البعيدة لم تُفرق بينهما، فكانا يراسلان بعضهما البعض عبر الخطابات، وها قد جاء "يعقوب" ليتحدث لـ"ابن داﭬيد" وجهاً لوجه، مرت أيام العيد وجاءت أيام العمل، ولم يذهب "يعقوب" بعد لمكان عمله، وذات مساء جلس مع "ابن داﭬيد" في حجرته، وكلٌ أمامه قدح من الشاي وغليون بفمه، يتجاذبان أطراف الحديث.
قال" نوفيخ" - وهو ينقر بأطراف أصابعه على جبهته -: حقاً يا صديقي، لن أعود إلى مكان عملي ثانية، سوف أتوجه للدراسة في الجامعة، هكذا قررت.
أجابه "ابن داﭬيد" – ومن فمه تتصاعد سحب الدخان دوائر دوائر-: أقول لكَ هذه المرة أيضاً إن نهجك غير معقول، من فضلك تذكر يا "يعقوب" أنكَ كنت فتى فقيرا بائسا، مثلي ومثل كثير من رفاقنا أيضاً، والتقطك "بيت مدراش هاربانيم"، ورباك كأبٍ لكَ وأعالكَ، وكل حاجاياتك هي من فقراء شعبنا؛ الذين قدموا من كدهم وعملهم من أجل هذا فقط، من أجل أن تتعلم الحكمة والمعرفة، وتُعلم أبناءهم بعد ذلك، لماذا الآن تُدير لهم ظهرك وتتبطر على نعمهم وما قدموه لكَ؟ ألأنكَ تبغي لنفسك مجداً؛ لتكون طبيباً أو محامياً، لتحقيق ثراء وحياة رغدة؟ ..
أجاب "نوفيخ": حسناً ما تقول، لكن بلا مبرر، إن نهجك نهج الفلاسفة منذ صباك، من خلال نفسك ورؤية قلبك ترى هذا العالم، وهذا الأمر الذي بيننا تراه كما يخطر في بالك وتفكر فيه كما ينبغي أن يكون، وليس كما هو في الحقيقة، هل شعبنا يحتاج حقاً لهاتين المدرستين، ولتلك المدارس الصغيرة لدينا وللمدرسين؟ إنهم لم يؤسسوا تلك المدراس، ولا هم أصحابها، يقولون لهم: أعطوا أموالاً؛ فيعطون، والوظيفة هي للأجنبي، ليحكمهم ويفعل ما يحلو له، يتكبر على شعب إسرائيل، وفي نظره المدرسون العبرانيون هم لا شيء، لقد زال المجد عن مدراسنا، لم تعد بها روح الشعب أو كيانه.
لذا قال "ابن داﭬيد" بتأثر: علينا نحن طلائع "الهسكالاه" أن نتشبث بالدين، أن نوقظ شعبنا ونتحدث إليه بكل حين، حان الوقت لننصح أبناءهم، لتنشأتهم روحياً وبروح العصر الحديث والجيل الجديد، ولتكن عيونهم مفتوحة علىهذه المدراس الدينية، عُد يا "يعقوب" يا صديقي إلى عملك ولا تترك مكانك.
وحينما أنهى "ابن داﭬيد" حديثه، سمع حينئذ صوت مسيرة، ودخل في تلك اللحظة "يوناتان" ساخط الوجه.
فقال "ابن داﭬيد" بمودة: أرى يا عزيزي أنكَ قلق، أخبرني ماذا حدث لا تُخفي عني من فضلك.
أجاب "يوناتان" مرتبكاً ومندهشاً: لم يعد "شمعون" موجوداً! لقد هرب!
كيف حدث ذلك؟
لقد جاء الشر من شباب "اليشيفا"[2]، قيل أن منهم من هجروا التوراة، ويلعبون الدومينو والورق في مصلى السيدات بالمعهد؛ الذي في بيت الرب، وبتحري الأمر، وُجد أنهم جماعة من الخونة، لم يعد في قلوبهم إيمان، لا يؤمنون بالمعجزات والعجائب، ويدنسون مقدسات شعب إسرائيل وسبوتاته، وأضلوا  كثيرا من الشباب من أبناء المكان، وأبعدوهم عن الطريق المستقيم، لذا فالمدينة غاضبة، والسخط عارم، يتهم "الحسيديم[3]" "الليطائيم[4]" بأنهم ضِعاف الإيمان، لا يؤمنون بالمقدسين، وتعلم عنهم الفتيان نهجهم السيء، ويدين معلموا المكان معلمي "ليطا"؛ لأنهم لم يعلموا تلاميذهم التوراة، علموهم التواراة مع التفسير واللغة والبلاغة، وكثير مما لاطائل له، مما لايُرجى منه فائدة لأرواحهم، أو يُشعرهم بمخافة الله، سمع "أفرايم" صرخة الشعب، لأن الآباء مستاءون من أبنائهم -أبناء جاحدون- وحمَّل ابنه "شمعون" ذنوبه، وعاقبه بتوبيخ عنيف؛ فهرب "شمعون" من وجهه.
صاح ابن داﭬيد بغضب: حقاً أخطأ الأبناء، ولكن المتهمين هم آباؤهم الذين لم يمنحوا لقلوبهم تعليماً توراتياً، وسلوكاً حسناً، ولم يغرسوا الحكمة والتوارة في قلوبهم منذ نعومة أظافرهم، عندما ينمون ويشتْمون من بعيد رائحة شجرة المعرفة، التي وضع الآباء "السرافيم"[5] حولها، كذلك نيران جهنم وزمرة ملائكة الشر، وإذ بهم يفقدون سلامتهم الروحية ولم يعودوا مؤمنين، الآباء يُخطئون في حق أبنائهم ويلوون لهم طريقهم، وتسخط عليهم قلوبهم، يُغمض الآباء أعينهم عن رؤية ما يدور في العصر، ويسيرون ضد التيار، ويعاني أبناؤهم بسببهم.
قال "نوفيخ" – شاداً على يد رفيقه-: ويتهمون آخرين! دعكَ منهم، وتعالى نذهب للجامعة ونتعلم أقوال الحكمة من حكماء الأرض لتطيب لنا الأيام.
قال "ابن داﭬيد" –وهو ينهض من مكانه-: لا يا صديقي، لن أذهب وأنهل المعرفة من حقول آخرين، في الوقت الذي يرجو شعبي أن أساعد أبناءهم، هذا الجحود بعينه، أنا ثابت في مكاني، وسأتحدث لشعبي وأحدثه قائلاً: لقد حان الوقت من أجل بناء مدارس عبرية! انهضوا وابنوا مدارسكم، لتسكنها روح المعرفة ومخافة الرب، والمسئولية ستكون على عاتقكم، وحينئذ يصبح كل أبنائكم هم أبناء شعبكم مدرسو توراة المعرفة، والسلام يسود بينكم، وإن رفضتم وتمردتم، تكون عاقبتكم مريرة في النهاية، ولات حين مناص.


مندلي موخير سفاريم  מנדלי מוכר ספרים (شالوم يعقوب أبراموفيتشשלום יעקב אברמוביץ') 1836- 1917

ولد في مدينة صغيرة اسمها كابولي في إقليم مينسك في روسيا البيضاء.
بدأ في الكتابة في مرحلة الهسكالاه، وكانت كتاباته الصحفية عبارة عن كتابات شعبية، وبدأ يكتب منتقدا حياة اليهود وتعليمهم وثقافتهم.
ترجم عن الألمانية ثلاثة أجزاء من كتاب "التاريخ الطبيعي" للمؤلف الألماني ليبنتس. وحتى عام 1872 كان نشاطه الأدبي قاصرا على المقال والترجمة.
كانت بداية إنتاجه القصصي باللغة الييدشية، ولم يعد للكتابة بالعبرية إلا عام 1886، وهنا تغيرت شخصيته وتحول من الأديب المسكيل الذي يحاول إصلاح المجتمع اليهودي، وإنما بدأ في كتابة أعمال هجائية لاذعة نحو اليهود، وبعدها تنوعت موضوعاته الأدبية، وكانت تتسم بالواقعية الاجتماعية، وعمل على إبراز التناقض بين حياة اليهود وحياة العالم من حولهم.
اتسم أسلوبه بالتنوع والتطور، ففي البداية كتب الييديشية، ثم تحول إلى العبرية وحافظ في كتاباته على اللغة العبرية التراثية والشعبية، ودمجها بتركيبات لغوية مستمدة من اللغات الأوربية، وانتشر أسلوبه اللغوي بين الكتاب اليهود المعاصرين، وتوسع استخدامه بين الكتاب والأدباء من بعده، مثل إحاد هاعام وبياليك، وفتحت لغته آفاقا جديدة للقصة العبرية، حيث حرص على توسيع لغة السرد القصصي، بتطعيم أسلوبه بلغة المشنا والمدراش والشعر الديني، وسعى لتخليص الأدب العبري من أسلوب الزخرفة اللفظية، وأدخل وحدة الأسلوب إلى الأدب العبري.
 






[1] بيت مدراش: مدرسة دينية يهودية. الكلمة مكونة من مقطعين:الأول بمعنى بيت، والمقطع الثاني ينطق مدراش ويعني دراسة.  
[2]  يشيفا بالعبرية:  יְשִיבָה تعني جلوس، وتلفظ بالعبرية: يِشيڤاه وهي مدرسة يهودية دينية حيث يتم تعليم مصادر الشريعة اليهودية، وكذلك طرقات الإفتاء في الديانة اليهودية.
[3]  الحسيديم: أتباع حركة الحسيدية اليهودية، وهي حركة دينية روحانية نشأت في القرن السابع عشر.
[4] نسبة إلى ليتوانيا.
[5] سرافيم أو سيرافيم وردت في سفر إشعياء  بالعهد القديم لتصف ملائكة مجنحين، لكن الكلمة تأتي أحيانا بمعناها اللغوي في العبرية وهو محرقة، من الفعل العبري שרף بمعنى حرق.