بانتهاء المراحل الثلاثة للانتخابات البرلمانية الأولى بعد الثورة بدت الصورة قاتمة إلى حد ما بالنسبة لأنصار التيار الليبرالي، ففي أول انتخابات تبدو نزيهة في مصر سيطر التيار المحافظ - بشقيه الإخواني والسلفي- على ما يزيد عن نصف مقاعد مجلس الشعب، وهي النتيجة التي أظهرت سيطرة التيار المتحدث باسم الدين، والعكس بالنسبة للتيارات الأخرى.
ما أود الحديث عنه هو كيف نجح بعض الليبراليين في الوصول إلى البرلمان رغم أخطائهم وضعف إمكانياتهم وتشويه سمعتهم،وربما يمكنني أن أسلط الضوء على مجموعة بعينها من الفائزين بمقاعد في البرلمان، والتي يمكننا أن نستشف من نجاحهم دلالات إيجابية عمرو حمزاوي، مصطفى النجار، عمرو الشوبكي، والفائزين من تحالف الثورة مستمرة.
خاض د. عمرو حمزاوي المعركة الانتخابية في المرحلة الأولى بالدائرة الرابعة بمحافظة القاهرة، والحقيقة أنه رغم فوزه باكتساح فإن المنافسة لم تكن هينة أبدا، فشخصية د. عمرو حمزاوي أثارت جدلا واسعا في جميع الأوساط السياسية منذ يناير 2011 وحتى الآن، بآرائه، وأيديولوجياته، وتصريحاته السياسية والاجتماعية، حتى أنه أثار جدلا بسبب مظهره وحياته الخاصة، كل هذا سلط عليه الأضواء فنال استحسان وإعجاب الكثيرين، كما نال هجوم البعض، ولم يكن هجوما طبيعيا بل كان ضاريا، حيث تعرض لحرب شعواء وصلت لحد التشكيك في ديانته والخوض في مسائل شخصية تخص عائلته وحياته العاطفية.
وفي هذه الأجواء الرهيبة من التخوين والتشكيك، بل والتكفير ينجح حمزاوي باكتساح، وربما يمكننا أن نربط بين فوز حمزاوي وخسارة القطب السلفي عبد المنعم الشحات، فقد آثرت دائرة حمزاوي عدم الالتفات إلى حملة الإشاعات البربرية، وفضلت رجلا يؤمن بقيم الحضارة والعلم والثقافة بعيدا عن حياته الخاصة التي لا تهم غيره، أما عبد المنعم الشحات فقد أجمعت كل القوى على ضرورة إسقاطه ــ وإجماعهم يبعث على الأمل ــ كونه رجلا يضر أكثر مما ينفع،عارض الثورة، حرَّم الديمقراطية، عادى الثقافة والأدب، الإسلام لا يدعو لتكفير الجميع وتحريم كل شيء، بل إنسقوط هذا الشحات قد يُحَسِّن الصورة العامة لمن يلقبون أنفسهم بالسلفيين، فلم ينتصر الإسلام بفوز السلفيين في الانتخابات كما صرح هذا الشحات، ولم ينهزم بهزيمته.
ولفوز حمزاوي دلالات ذات أهمية كبيرة، على رأسها فوزه في دائرة حضرية، وهو ما يعطي مؤشرا هاما على تأثير المدنية ومستوى التعليم على الفكر العام للناخبين، كما يجب أن نشير إلى أن حمزاوي أدار حملته الانتخابية بقدر عال من الحرفية والاقتدار مستعينا بالعلوم السياسية والأساليب الدعائية الحديثة، ومدعوما بحشود من الشباب المؤمنين بالعلم والحضارة والثورة.
الفائز الثاني هو د. مصطفى النجار أحد مؤسسي حزب العدل، والناشط السياسي الذي ذاق مرارة سجون مبارك المخلوع، فاز النجار في جولة الإعادة على مرشح التيار المحافظ محمد يسري عن دائرة مدينة نصر، وقد أصابه بعضا مما أصاب عمرو حمزاوي من التخوين والتشكيك والتكفير، غير أنه نجح في إدارة حملة انتخابية بأسلوب حضاري راق، ومما يميز مصطفى النجار الهدوء والاتزان العقلي، غير أن أكثر ما أسعدني شخصيا في فوزه هو أنه لم يتعد الثانية والثلاثين من عمره، تخيل أنه في مصر شاب ثائر يؤسس حزبا معظم المنتسبين له شباب ويحصل على مقعد بمجلس الشعب، حالة كنا نتمنى تكرارها بعد الثورة لنتخلص من "دولة العواجيز"، ولكنها لم تتكرركثيرا بسبب ضيق ذات يد الشباب، وعدم قدرتهم على تحمل أعباء الدعاية الانتخابية، وضراوة حملات التشويه التي تعرضوا لها، زِد على ذلك عدم إيمان قطاع كبير من الشعب بقدرة الشباب على تولي القيادة في مصر.
لم يختلف الحال كثيرا في حالة د. عمرو الشوبكي (المستقل عضو اللجنة الاستشارية لحزب العدل) الذي فاز في دائرة الدقي والعجوزة وإمبابة على مرشح الإخوان عمرو دراج في منافسة شرسة محترمة، تجلت فيها القدرات السياسية للمتنافسيْن، ولكن يختلف وضع د. عمرو الشوبكي عن سابقيه حمزاوي والنجار في أنه لم يواجَه بحملات تخوين وتشكيك كالتي واجهها الأخيرين، إضافة إلى أنه لا ينتمي إلى حزب سياسي (حمزاوي مستقل لكنه يؤسس حزب مصر الحرية)، ولقى نجاح الشوبكي استحسانا وفرحا شديدين في الأوساط السياسية نظرا لما يتمتع به من خبرة سياسية، واحترام الكثيرين له.
يعتبر تحالف الثورة مستمرة النموذج الأكثر إيجابية الممثل للتيارالليبرالي المنفتح الذي يخوض الانتخابات، مجموعات من الشباب وقف بجانبهم د. محمد غنيم رائد زراعات الكلى في مصر والمناضل السياسي الذي آمن بالشباب ورفض أن يخوض معركة الانتخابات مفضلا تقديم الشباب ومساندتهم، ومعترفا بأحقيتهم في الوصول للبرلمان الأول بعد الثورة.
رفض د. غنيم الارتباط بالكتلة المصرية بعدما وضعت على قوائمها بعضا من فلول الحزب الوطني المنحل وفضّل مؤازرة الشباب المغمورين الحالمين المؤمنين بالثورة، وربما يعتقد البعض أن ما حققه تحالف الثورة مستمرة لا يمكن مقارنته بالكيانات الدينية، غير أنني أعتقد أن حصول التحالف على ثمانية مقاعد برلمانية في هذه الظروف الصعبة هو إنجاز يستحق الإشادة، فقد عانى التحالف من نقص التمويل، والاصطدام بمرشحي الإخوان والسلفيين والكتلة والوفد والفلول والمستقلين، ناهيك عن حملة التشويه البائسة التي تعرض لها د. غنيم شخصيا.
لم يكن د. غنيم هو الداعم الوحيد لتحالف الثورة مستمرة، بل سانده أيضا الكثير من الشخصيات السياسية والعامة، وربما كان تأييد عبد الحكيم عبد الناصر عاملا شديد الأهمية، فوجود ابن الزعيم الراحل عبد الناصر في صفوف المؤيدين أعطى للتحالف دفعة قوية للأمام، وإن دل هذا على شيء إنما يدل على شعبية ناصر الطاغية الباقية لدى قطاع عريض من المواطنين في مصر، وهو ما لمسته بنفسي حينما ذهب عبد الحكيم عبد الناصر إلى مسقط رأسي في جولة تأييد لتحالف الثورة مستمرة وبصحبته د. غنيم.
كان النجاح البسيط الذي حققه تحالف الثورة مستمرة في الانتخابات البرلمانية راجعا بشكل واضح إلى الكاريزما الجاذبة التي يتمتع بها الثنائي غنيم وعبد الحكيم، كما أنها سبب رئيسي في نجاح الثلاثي حمزاوي و النجار والشوبكي.
نجح حمزاوي والنجار والشوبكي وتحالف الثورة في الحصول على بعض مقاعد البرلمان رغم وقوعهم في مطحنة انتخابية لا ترحم بفضل الوعي (في المناطق الحضرية خاصة) بفضل الفكر المستنير، بفضل تغليب المصلحة العامة، بفضل الإدارة الشريفة للمعركة الانتخابية، وهو ما يعطي أملا (لي على الأقل) في نجاح التيار الليبرالي المستنير آجلا، إذا ما توفرت له الظروف المواتية المتمثلة أولا وقبل كل شيء في الثقافة والوعي الجماهيري. الثورة في التنوير... وكل عام وأنتم بخير.
يتبقى لي أن أتطرق بالحديث إلى حزب الوفد الكتلة المصرية بصفتهما الممثليْن الرئيسيْن الليبرالية في الانتخابات، غير أن نتائجهما جاءت مخيبة للآمال بيدهم لا بيد غيرهم من المنافسين، فحزب الوفد (حصل على 42مقعدا) طُمِست أيديولوجيته الليبرالية، و فقد زعامته التاريخية على يد قيادته الحالية التي جعلت منه مجرد حزب كارتوني في عهد نظام مبارك، وحزب بلا هوية أو مواقف ثابتة بعد الثورة، أما الكتلة المصرية (حصلت على 29 مقعدا) فقد صرعت نفسها في الانتخابات بعدما جعل قادتها جُل همهم في مهاجمة التيار الديني، وأفسحوا مكانا للفلول على قوائمهم، وتركوا الحبل على الغارب لنجيب ساويرس ليهدم بتصريحاته كل نجاح تحققه الكتلة، فصار شوكة في الظهر، بالإضافة لاتحادهم مع حزب التجمع الميت إكلينيكيا منذ سنوات.
في النهاية أعتقد أن مستقبل التيار الليبرالي في مصر سيكون أفضل حالا إذا ما اتحد أنصاره، وكفوا عن البكاء على اللبن المسكوب، إذا ما زاد الوعي والثقافة في المجتمع المصري الذي عانى كثيرا في عهد مبارك ووجد كثير من أفرادهم ملاذهم الوحيد في الارتماء في أحضان التيار الديني.
منشور في موقع قناة نريد:
No comments:
Post a Comment