الأحد 29 يناير 2012 - 0 : 12 |
كان من المفترض ـــ في هذا التوقيت تحديدا ـــ أن أتحدث عن واحد من الأحداث الجارية الآن في مصر، مثل الذكرى الأولى للثورة، الخطاب الأخير للمشير، بدء جلسات البرلمان وما شاهدناه من سيرك سياسي يدعو للقلق ويبعث على الأمل في نفس الوقت، كان من المفترض أن أتحدث عن نشوز الإخوان، عن جرائم المجلس الحاكم، عن الملاحقات الموتورة للثوار والناشطين، أو الكوميديا السوداء في المحاكمات، عن البرادعي الذي يسبق الكثيرين بفكره سنوات ضوئية، عن قانون الأزهر المطبوخ، عن قانون الطوارئ المرفوع قولا لا حقيقة، لكني آثرت أن أترك كل هذه القضايا والمسائل وأتطرق إلى موضوع آخر يتعلق بحال ومستقبل التيار الليبرالي السياسي في مصر خاصة بعد انتخابات مجلس الشعب.
لم أُعنوِن المقال بـ "الليبرالية المُفترَى عليها" لعدة أسباب، أولها أن هذا العنوان تكرر كثيرا، ثانيها أنني لن أتناول تشويه الليبرالية وأنصارها من المعارضين لها، وثالثا لأن الأمر لم يعد مجرد افتراء أو تشويه، بل تعداه إلى انتحار الليبراليين أنفسهم، فأُعبِّر في المقال عن نوع من النقد الذاتي لأنصار الليبرالية ــ وأنا منهم ــ وأتساءل: لماذا يصرع الليبراليون أنفسهم، لماذا يقفون في مرمى النيران بيدهم لا بيد غيرهم؟!.
ولذلك لن أتحدث في المقال عن تعريف الليبرالية، أو عن دور أنصارها في الثورة المصرية، لن أتحدث عن الحملات المسعورة ضدها، أو عن تعريفها من قبل المنتسبين لتيارات دينية، ليظهر أنصارها أمام المجتمع عبارة عن مجموعة مارقة لديها شبق جنسي شاذ، وتستحب التظاهرات العارية على الدراجات، تكره الحجاب، وتعيش على أموال أجنبية، ناهيك عن التوأمة السرية مع اللهو الخفي المُسمَى تجاريا بـ "الماسونية"، فلست ممن يجيدون الكتابات الساخرة.
يرى الكثيرون أن نتائج انتخابات مجلس الشعب جاءت بنتائج مخيبة للآمال بالنسبة للتيار الليبرالي، ولست من بين هؤلاء، فأنا أرى أن الليبرالية حققت إنجازا كبيرا في المعركة الانتخابية بالنظر إلى حملات الافتراء والتشكيك والتكفير، وعدم التوعية، وسوء إدارة العملية الانتخابية، وغياب تكافؤ الفرص بين التكتلات السياسية المتنافسة، وقبل كل هذا الأخطاء الكارثية لليبراليين أنفسهم.
لم تتعد نسبة الليبراليين في مجلس الشعب نسبة الـ 20% بالمائة، موزعة على أربعة تكتلات هي الوفد والكتلة المصرية وتحالف الثورة مستمرة، والعدل، إضافة إلى مستقلين، وهذا ما لا يقارن بما حققه التيار المحافظ (المُعروف إعلاميا بالإسلامي) الذي سيطر على ما يقرب من 70% من المقاعد.
طالما بدأتُ بالحديث عن مجلس الشعب والنتائج، فأتطرق أولا إلى جرائم الأحزاب والكيانات الليبرالية، والبداية مع حزب الوفد الذي صار تاريخا ليس له مستقبل، بخلاف ما روجه في دعايته الانتخابية، هذا الحزب الذي كان عريقا ربما هو أول كيان سياسي رفع لواء الليبرالية في مصر، لكنه وصل الآن على يد زعيمه البدوي وزمرته إلى مرتبة الحزب الكارتوني الأول في مصر، فلم يعد خافيا على أحد أن الوفد تحت رئاسة السيد البدوي كان ذراعا للحزب غير الوطني المنحل، وبعد الثورة ظن الوفديون الجدد أن حزبهم عاد ليتقلد الزعامة من جديد، وذلك قبل أن يخرج الوحش الديني من كهفه، فتأسس حزب الحرية والعدالة ممثلا عن جماعة الإخوان المسلمين، وحزب النور ممثلا عن من يكنون أنفسهم بالسلفيين، ومن ثم توارى الوفد فورا ومجددا خلفهما، وعاد ظلا كما كان قبل الثورة، وعندما وجد الوفديون أن التوازنات السياسية ليست في صالحهم؛ حاولوا تصحيح الأمور، لكنهم بدلا من "تكحيلها" "عموها"، فكان الحل الأولي السهل المتمثل في كسب ود المجلس العسكري في مناسبات عديدة، وعندما اقتربت الانتخابات ولم يجد الوفد في صفوفه من يمثله اتجه لجمع شتات أعضاء الحزب المنحل، وهو ما زاد الطين بلا، لكن كل هذا لا يقارن بالحركة الانتحارية الأخيرة، بعد مغازلة الوفد لجماعة الإخوان المسلمين وسعيه للتحالف مع الحرية والعدالة ثم تملصهم من التحالف سريعا، شخصيا لا أعترض على تحالف حزب ليبرالي مع الإخوان أو غيرهم من الجماعات الدينية، خاصة في هذه الظروف التي تمر بها مصر، والتي تحتاج إلى تضافر القوى والاتحاد، ولكني أعترض على إنكار الوفد أيديولوجيته الليبرالية، والتهرب منها كأنها جريمة مخلة بالشرف، وذلك ابتغاء لبضعة مقاعد برلمانية وشرف مصطنع، وتمسح بالقوى السياسية المسيطرة على الشارع.
نفس جرائم الوفد تقريبا ارتكبتها الكتلة المصرية، على رأسها احتضان الفلول، إضافة إلى التحالف مع حزب التجمع الذي لا يختلف كثيرا عن الوفد في تصنعه المعارضة قبل الثورة، وارتضاء قادته بفتات الحزب المُنحل، لكن أخطاء الكتلة المصرية أفظع من الوفد، لأن اثنين من أحزابها الثلاثة تأسسا بعد الثورة، وكان مأمولا منهما أن يكونا أكثر مسئولية وتنظيما، بل كان منتظرا منهما من البداية أن يكونا حزبا واحدا، بدلا من التشتت والانقسام، لكن يبدو أن مؤسسي الحزبين آثروا أن يكون كل منهم زعيما أو قائدا بدلا من وقوفهم في صف واحد، وهذا ما يجعلني أُعمم الخطأ على باقي الأحزاب والتكتلات الليبرالية، لماذا لم تستغل هذه الكيانات حالة التوحد بعد الثورة لتأسيس حزب واحد يستطيع المنافسة بقوة في الانتخابات البرلمانية؟ لماذا تشتت الليبراليون، وتنازعوا ففشلوا وذهبت ريحهم في أحزاب صغيرة لا تستطيع الصمود، لماذا لم ينضوِ أعضاء الجبهة الديمقراطية مع المصريين الأحرار مع المصري الديمقراطي الاجتماعي مع مصر الحرية مع العدل مع الوعي مع غد الثورة مع التيار المصري، وغيرهم من المستقلين تحت راية واحدة؟ وما يبعث على المرارة أكثر أن أعضاء هذه الأحزاب يقولون ما لا يفعلون، ويظهرون الجانب السيئ فيهم، بل ويدهسون كثيرا من مبادئ الليبرالية تحت أرجلهم، والاتهام هنا أوجهه إلى المصري الديمقراطي الاجتماعي وحليفه المصريين الأحرار، فالأول دخل الحلبة السياسية بقوة إيجابية معتمدا على كوادر أكاديمية مؤيدة بقوة للثورة، لكن هذه الكوادر نفسها في رأيي تجذب الحزب بقوة للوراء، على الجانب الشخصي أحترم بشدة د. محمد أبو الغار، ود. عماد جاد، لكن هذا الثنائي يرتكب أخطاء جمّة، على رأسها تصدرهما وحدهما تقريبا للمشهد في الحزب، فعندما أتوجه بناظري إلى حزب ليبرالي تأسس بعد ثورة قادها شباب أنتظر أن يقوده شباب، وأن يتوارى الثنائي الأكاديمي المخضرم خلف الستار، لينحصر دورهما في التخطيط والتوجيه والنصح، بدلا من انتشارهما المبالغ فيه أمام الكاميرات التلفزيونية وفي الأخبار الصحفية، إضافة إلى أن التدرج الهرمي في الحزب يحمل في نظري قدرا من الطبقية المرفوضة، حيث يقف في صدارة الحزب مجموعة من الأكاديميين والجامعيين، في حين لا نكاد نرى دورا لبقية أعضاء الحزب، ومن المؤكد أن الأكاديمي المتميز لا يمكن بالضرورة أن يكون سياسيا ماهرا.
وربما تبدو الصورة أفضل قليلا بالنسبة للمصريين الأحرار، لكن الحزبين معا يرتكبان الحماقة الكبرى، والتي ربما ورثاها عن حليفهما د. رفعت السعيد رئيس حزب التجمع الآيل للسقوط، وهي مهاجمتهما للتيار الديني بداعٍ أو بدون داع، دون أن يأخذا على عاتقيهما محاولة إيجاد حلول عملية للمنافسة وأخذ زمام المبادرة من التيارات المتحدثة باسم الدين، والتي أختلف معها تماما، بل وأعتبرها من معوقات نجاح الثورة في مصر، ولكن ماذا قدمت الأحزاب والكيانات الليبرالية للشارع؟ لماذا تدخل في صراع سفسطي وجعجعة سياسية مع القوى المنتصرة اعتمادا على مبدأ :" شيلوه من فوقي وأنا أضربه"؟!.
الإنصاف يقتضي منا أن نقول أن التيارات الدينية قدمت للمواطن المصري كثيرا مما يحتاجه في ظل غياب دور الحكومات المتعاقبة، في حين لم تقدم الأحزاب الليبرالية شيئا، لم تحسن من صورتها بطريقة عملية، لم تتقرب من المواطن العادي، بل فضل مؤيدوها الظهور في الفضائيات والصحف من أجل التنظير والتثقيف وتعليم المصري ما لا يستطيع إدراكه بمفرده، مكتفين بدور النخبة والصفوة التي ترتدي البذات الفاخرة، وتتحدث بلغة متعالية على الجميع، رغم معرفتي الأكيدة أن كوكب المريخ ليس موطنا لهؤلاء، بل دولة مصر الكائنة في منتصف الكرة الأرضية، والتي ترزح تحت الفقر والجهل، لكنها في ذات الوقت لا تستسيغ من يتعاملون مع أهلها البسطاء بدونية في الملبس والحديث والتعامل.
لذلك أشعر بضيق شديد حينما يتحدث أبو الغار، أو عماد جاد، أو محمد أبو حامد بلهجة الشاكي المتباكي، مُصرّين على أنهم ملائكة يعانون من منافسة غير شريفة تخوضها التيارات الدينية، في حين تؤكد جميع الشواهد أن الكتلة المصرية والوفد الآيل للسقوط ارتكبا نفس التجاوزات التي ارتكبتها الأحزاب الدينية في معركة الانتخابات، ولكن ربما بصورة أقل، هذا لا يجعلني متفقا مع هذه التيارات التي تتخذ من الإسلام مطية لتحقيق مطامعها السياسية، ولكن يجب أن ننظر للواقع الذي يؤكد سيطرة الحرية والعدالة والنور على الأغلبية في مجلس الشعب، وبالتالي لهم الحق في قيادة المسيرة السياسية.
من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها الليبراليون ـــ أحزابا ومستقلين ــ أنهم تركوا الحبل على الغارب لكل من يتحدث نيابة عنهم، فلا أدري من منح نجيب ساويرس لقب راعي الليبرالية في مصر، وهو لا يتعدى كونه رجل أعمال داهن نظام مبارك كثيرا، والآن يحاول جاهدا تقلد منصب الثائر، لا أدري هل إنفاقه على الكتلة المصرية يعطيه صلاحية الكلام، ليهدم كل ما ينجح الليبراليون في بنائه؟ ونتائج المراحل الانتخابية الثلاثة أبرز شاهد على هذا، حيث تقهقرت الكتلة المصرية بشدة في المرحلتين الثانية والثالثة بعد التصريحات الهوجاء لنجيب ساويرس، ونجم الإعلام عماد جاد.
الأمر ليس مقتصرا على أعضاء الأحزاب الليبرالية فحسب، بل يتهور كثيرا من المستقلين في أفعال وأقوال تحط من شأن التيار الليبرالي بكامله، وممدوح حمزة من أبرز الأمثلة على هذا، إضافة لبعض سقطات الليبراليين من الثوار، وتقوقعهم في خندق العالم الافتراضي، دون مواجهة العالم الحقيقي الذي يتفاعل إيجابيا مع المتعاملين معه برفق، ببساطة، بتواضع، ويحتقر من يرفعون شعارات الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير؛ في حين أنهم اعتبروا اختيار الأكثرية من المصريين نوعا من السذاجة الشعبية الناتجة عن جهل وتغييب .
أيها الليبراليون كفاكم عبثا وتسفيها لمبادئ التيار، انظروا للواقع بإنصاف وتعقل، لا تقفوا في مواجهة الآخر المستعد المسيطر دون سلاح، دون التمسك بالقيم الإيجابية لليبرالية، دون الاتحاد، دون احترام المواطن المصري، لا تُضيقوا الخناق أكثر على رقبة الليبرالية المصرية، وإلا ستعود مصر قرونا إلى الوراء، أرجوكم لا تنتحروا سياسيا، فالأمل يلوح في الأفق.
معا سنغير
منشور في موقع قناة نريد:
No comments:
Post a Comment